عكس الجدل عن التطبيع في مواقع التواصل الاجتماعي حالة من الإرباك لدى النخبة السياسية، يسارها ويمينها، التي ظلت لعقود تمتلك مواقف متماسكة بشأن القضية الفلسطينية. وفيما بدا طرح التساؤلات بشأن موقف تونس وموقعها من “السلام الجديد” يقابل باتهامات “التطبيع” مع التطبيع ومحاولة كسر الحواجز النفسية لمناقشة “تابو” ممنوع الحديث فيه، لكن اشتراك المغرب في هذا المسار أخرج النقاش من الشكوك والاتهامات إلى دائرة الحيرة والخوف لدى طبقة سياسية ما تزال تحفظ شعارات الستينات عن ظهر قلب، تلك الشعارات التي نسيها الفلسطينيون أنفسهم.

وأعادت إشارة خبرية في صحيفة نيويورك تايمز عن أن تونس وسلطنة عمان ربما تكونان على قائمة التطبيع بعد المغرب الجدل إلى الواجهة، خاصة بعد أن تضمن بيان للاتحاد العام التونسي للشغل إشارة إلى وجود “لقاءات غير معلنة” لاختبار موقف تونس.

وزاد هذا البيان من مخاوف الذين يعتقدون أن تونس عصية على التطبيع خاصة بعد ثورة 2011. وجاء في البيان أن “لقاءات غير معلنة تمّت مؤخّرا برعاية فرنسية وأميركية من أجل دفع الدولة التونسية للتطبيع مع الكيان الصهيوني على غرار دول عربية أخرى مقابل تحفيزات ومساعدات في شكل رشوة لضرب المواقف الوطنية لتونس وإجبارها على تغيير سياساتها الدولية والعربية”.

وانضمت وزارة الخارجية سريعا لهذا الجدل ببيان زرع الشكوك أكثر من طمأنة الذين يعتقدون أن لا خوف على الدبلوماسية التونسية طالما هي من صلاحيات الرئيس قيس سعيد، والوزير الذي يشرف عليها قد اختاره هو بنفسه.

وخلف عبارات التمسك بالثوابت و”الحق الفلسطيني الكامل دون نقصان”، أوحى البيان بأن الأمر مرتبط بـ”تطبيق قرارات الشرعية الدولية الخاصّة بحقوق الشعب الفلسطيني في استعادة أرضه المسلوبة وإقامة دولته المستقلّة”، وهو ما يعني أن تونس/ الثورة لا تمانع في “تطبيع” بعد تطبيق قرارات الشرعية.

وهذه هي روح المبادرة العربية التي تطالب السعودية بأن تكون أرضية عبور عربي نحو التطبيع في موجة ثانية بعد التطبيع الحالي الذي يتم تحت شعار المصلحة الوطنية، ودون أي انتظار للمزاج المتقلب للقادة الفلسطينيين.

لقد اكتفى بيان الخارجية التونسية بإعادة موقف تونس ما قبل الثورة، وهو موقف ظل يوصف بأنه يعبر عن “الرجعية العربية”. ولم يعبر البيان عن مواقف الطبقة السياسية الجديدة بدءا بالرئيس قيس سعيد، وهي طبقة تؤمن بفلسطين ما قبل 1967، ما يظهر أن الرئاسة التونسية وجدت نفسها مجبرة على البراغماتية لمجاراة موجة السلام الجديد.

وكان سعيد قد اكتفى في تعليقه على خطوات الإمارات والبحرين وفتح علاقات لهما مع إسرائيل بأنه “شأن داخلي”. ومر الموقف الزئبقي بسلام مستفيدا من أجواء الصراع الحامي بينه وبين رئيس البرلمان راشد الغنوشي، حيث ارتأى كثيرون أن أي نقد للرئيس سعيد بمثابة اصطفاف وراء رئيس حركة النهضة.

صحيح أن المعارضة وقفت في 2005 ضد زيارة أرييل شارون لتونس، وعرفت بصوتها العالي في دعم الفلسطينيين، لكن الجديد أن جزءا من هذه المعارضة موجود الآن في السلطة، وهو يعتمد على البراغماتية في تثبيت هذا الوجود كون السلطة أولوية يمكن أن تجيز ظرفيا “التنازلات المؤلمة” تحت مسوغ “إكراهات الواقع”، وقد تشمل هذه التنازلات مسألة التطبيع.

ويميل كثيرون إلى أن ذكر تونس كوجهة قادمة هو نوع من الاختبار للطبقة السياسية البراغماتية، خاصة أن البلاد بمثابة خاصرة رخوة.. وسيكون بمثابة اختبار جدي خاصة أن التطبيع الجديد تتم مقايضته بالمساعدات والإغراءات. كما أن رفض التطبيع قد يقود إلى عرقلة القروض التي تحصل عليها تونس من المؤسسات المالية الدولية، وهذه المؤسسات ليست بمنأى عن السياسة وخاصة ارتباطها بالموقف الأميركي.

وهذه هي النقطة المهمة التي قد تسحب الموقف التونسي “الممانع” إلى مربع التطبيع في “دولة الثورة”، التي تعيش على القروض والإنفاق السخي وشراء السلم الاجتماعي بالزيادات في الرواتب والمنح، وإغراق المؤسسات الحكومية بالانتدابات العشوائية.. هذه الدولة لا تقدر على التقشف ولا تتحمل أي توقف لحركة الاقتراض الخارجي.

وتعيش تونس على وقع إضرابات دائمة لقطاعات حكومية تريد أن تراكم مكاسبها سنويا، بالرغم من تنفيذ مطالبها السابقة بالزيادة المجزية في الرواتب والترقيات والمزايا المختلفة. وتستفيد هذه القطاعات من الغطاء السياسي للاتحاد العام التونسي للشغل. كما تستفيد من دعم المعارضة التي تعمل على إغراق البلاد في الأزمات لإظهار عجز الحكومات المتعاقبة.

لقد أفقدت تجربة عشر سنوات من الثورة المناعة الاقتصادية التي تمكنها من الرفض، أو المناورة لتحسين شروط التفاوض ورفع سقف المكاسب، بدا هذا في المفاوضات مع إيطاليا وفرنسا في ملف الهجرة ومقايضة دور الحارس الجنوبي للمتوسط مقابل المزايا الاستثمارية والاقتصادية، فما بالنا بملفات أكثر تعقيدا.

كما فقدت القدرة على المنافسة الخارجية في قطاعات حيوية مثل السياحة، ويمكن أن يزيد انفتاح المغرب على السوق الإسرائيلية وقدرته على استقطاب السياح اليهود في تعميق أزمة هذا القطاع الذي يعاني من الارتجال خاصة بعد أن تخلت الدولة عن مهمة الترويج الخارجي وتقديم التسهيلات والدعم المالي لقطاع كان يمثل متنفسا لأزمة البطالة.

وبالنتيجة، لا تمتلك تونس القدرة على المناورة الدبلوماسية، وهذه حقيقة. قد ينجح الضغط الشعبي، وضغط النخب في تعطيل مسار التطبيع، لكن المحدد هو أوراق القوة الذاتية التي تقاوم الضغوط، وهي للأسف شبه مفقودة، وحتى الحركة الاحتجاجية الشعبية فقد اهترأت بفعل المعارك الحزبية والنقابية والصراعات حول الهوية، وهي صراعات ليس في الوارد أن تختفي في القريب العاجل، وستزيد من حالة الانقسام السياسي، وتوسع حالة الانقطاع الشعبي عن السياسة والسياسيين.

قد يكون الأمل في أن ترتبط موجة التطبيع والضغوط بانتهاء المدة الرئاسية لدونالد ترامب خلال أقل من شهر، ما يسمح بتبديد المخاوف، لكن هذا التأجيل لن يستمر طويلا، وستعود نفس الأسئلة وربما بأكثر إلحاحية وتحديا.