ربما لاحظ البعض منا في مسيرة حياته، من لا يحسن العتاب ومن لا يحسن الاعتذار، وإن فعل أحد ذلك فهذا لا يعني أن نحكم على أولئك من خلال هذا التصرف غير الموفق، فقد يكون لديهم من الخصال الأخرى الحميدة الشيء الكثير.

وأذكر أن شخصاً قد أتى معاتباً قريباً له في أمر وقع، فما كان من المتلقي إلاَّ حمل على قريبه بكلام جارح، فخرج الآخر ولم يعد بينهما تواصل أو تواد، واتسعت رقعة ذلك الجفاء حتى طالت الأبناء. الحقيقة أن كثيراً من المشاكل يمكن تلافيها باختيار الكلمات المناسبة، في العتاب أو الاعتذار وما أحوجنا إلى الحكمة، والصبر على المكاره، لعل الله أن يهدي من أخطأ ويوفق من أصاب، ومع أن الوعاظ قد كثروا لاسيما أن وسائل توصيل الرسائل قد زادت وتيسرت، إلاّ أن المتعظين فيما يظهر لم يزدوا بمقدار ذلك التوسع في العدد والعدة من الوعاظ، وكلما نخشاه أن يزيد الوعاظ ويقل المتعظون، لأن الواعظ لا يبدأ بنفسه إنما يريد أن يغير الآخرين ويبقى على ما هو عليه، ولو ركزنا المواعظ، على حسن الخلق واللطف في التعامل لكن نتاج ذلك ذا مردود كبير على الناس في تعاملهم وعبادتهم. ولابد أن قصصاً كثيرة تحدث وما زالت تحدث في كل يوم من بين المتعاتبين والعاذرين أو غير العاذرين سواء كانوا من خاصة الناس أو عامتهم، أو بين الأقرباء أو الأصحاب أو ذوي الصنعة الواحدة، او المتزاملين في عمل ما، وقبل ذلك العشاق والمتحابين، ولكن دعونا من العشق والعشاق فالحديث فيه ذو شجون، وقد وقع في حبائله الكثيرون. سأورد قصة ظريفة، أوردها العالم والفقيه والفيلسوف صاحب المذهب الظاهري أحمد بن حزم، فقد روى أن أحمد بن عبدالله بن شهيد، زار عبدالله بن جهور الوزير، وكانا جميعاً في خدمة الأمير عبدالرحمن الناصر الأموي الأندلسي، وهو أشهر أمراء الأندلس وكان الأمويون لا يسمون أنفسهم خلفاء تأدباً حتى لا يكون هناك خليفان في فترة واحدة، لكن عندما تبين له ضعف الخلافة العباسية سمى نفسه خليفة، ونعود للقصة، فبعد أن وصل أحمد بن شهيد، إلى منزل زميله الوزير عبدالملك بن جهور، وجد صاحبه منهمكاً في إنهاء بعض المسؤوليات التي أناطه بها الأمير، ولم يتمكن من الاجتماع به، فشامت نفس بن شهيد، فكيف يرد مثله، ويحجب الوزير عنه، فأخذ رقعة وكتب فيها بيتين من الشعر، ودفع بالرقعة إلى الحاجب ليعطيها للوزير بن جهور، قال فيها:

أتيناك لا عن حاجة عرضت لنا

إليك ولا قلب إليك مشوق

ولكننا زرنا بفضل حلومنا

حمارا تولى برنا بعقوق

فأجابه بن جهور بقوله:

حجبناك لما زرتنا غير تائق

بقلب عدو في ثياب صديق

وما كان بيطار الشآم بموضع

يباشر فيه برنا بخليق

الحقيقة أن أحمد بن شهيد لم يحسن العتاب، لكن أخذته العزة بالأثم، ورأى أن مثله لا يرد، لاسيما من أديب ووزير وعالم مثله، فكانت هذه الأبيات القاسية، فكان رد الوزير عبدالملك بن جهور قاسياً ولم يعتذر بلطف، وإنما كال له الصاع صاعين، وربما نقف عند نقطة مهمة وهي قوله: بقلب عدو في ثياب صديق، والحقيقة أن هذا قد يتكون بين الأقران، وربما أن بينهما شيئاً من ذلك، لكن المجاملة كانت سائدة إلى أن جاء الحدث الذي أظهر ما كان خافياً.

وهذا القول يذكرني بقول عبدالملك بن سعيد المرادي الخازن، عندما حجبه أحد الوزاء عن بابه، فقال:

ما حمدناك إذ وقفنا ببابك

للذي كان من طويل حجابك

قد ذممنا الزمان فيك فقلنا

أبعد الله كل دهر أتى بك

لاشك أن من أثقل الأمور على النفس أن يردك من هو قادر وتتوقع منه ألاّ يحجبك عن لقياه، كما فعل بن جهور لزميله حيث حجبه، لكن أيضاً من الحكمة الصبر، أو العتاب بطريقة لبقة تحفظ الود، فالمرء تمر به ظروف عملية واجتماعية ونفسية في أوقات معينة، لهذا فنحسن العتاب، وطيب الاعتذار يبقي الود والتواصل.

وقصة أخرى حدثت أيضاً للوزير عبدالملك بن جهور في عهد عبدالرحمن الناصر، مع أحد موالي بني أمية واسمه عبدالوهاب بن محمد (أبو وهب)، وكان به كبر عظيم وفخر مفرط، لقربه من بني أمية من خلال خدمته لهم، كما كان حال آبائه، وكان لغوياً قرأ كتب سيبويه، ومع ما فيه من هذه الخصال الذميمة إلاّ أنه يظهر الزهد، وهذا تناقض غريب لكنها النفس التي قد تجمع المتناقضات في آن واحد، ودخل يوماً على الوزير عبدالملك بن جهور، فأقعده على حنيه، ومال إليه بحديثه، فدخل أحد الوجهاء يقال له الخروني فأقعده فوقه، فخرج أبو وهب مغاضباً، وكتب في رقعة أبياتاً وأرسلها إلى الوزير، كان فيها حكيماً، مع أنه متكبر ومغرور، فأحسن العتاب للوزير، ولم يكن مثل بن شهيد، قال معاتباً في قصيدة منها:

بلوتك أسنى العالمين وأفضلا

وأهذب في التحصيل رأياً وأكملا

تُقَدِّم من أضحى تَقَدَّم لؤمه

لقد ضل هذا من فعالك مشكلا

وما كنت أرضى يعلم الله أنني

أساويه في الفردوس داراً ومنزلا

فإن كنت قد قصرت بي عن محلتي

صبرت، وما زال التصبر أجملا

وكنت جديراً في كمالك أن ترى

لمثلي نصيباً من ودادك أجزلا

وهنا يُرى حسن معاتبته للوزير لكن سجية الكبير والغرور ظهرت في أبياته لا سيما الثاني والثالث، مع أنه زاهد، عفا الله عنا وعنه، ولحسن عتابه للوزير بن جهور، رد عليه ابن جهور بأبيات شعر لطيفة تليق بحسن عتابه منها:

ظلمتك فيما كان مني مجملا

على غير تحصيل وعاتبت مجملا

تقربت من قلبي وإن كنت آخرا

وأخر عن قلبي وإن كان أولا

وما أجهل القدر الذي أنت أهله

ولا شرفا أضحى عليك مظللا

فإن عنَّ تقصير بغير تَعمُّدِ

فغُطَّ عليه منعماً متطولا

ما أجمل العتاب والاعتذار، لولا ما حملته نفس أبو وهب من كبر على الوجيه المسمى الحزوني، لكنها طبائع البشر، وصنائع البيئة تتمازج ليكون أمامنا مخلوق نقف أمامه في حيرة فيما نحكم فيه له وعليه.