توصلت بريطانيا والاتحاد الأوروبي، إثر مفاوضات حثيثة وشاقة، إلى اتفاق يرعى مرحلة ما بعد “بريكسيت”، ولكنّ رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري وخلفهما “حزب الله”، عجزوا عن التوصّل إلى اتفاق لتشكيل حكومة جديدة.

لا بريطانيا ولا أي من دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين تعاني من أزمات مالية واقتصادية واجتماعية ومؤسساتية حادة تصل إلى حدود الجوع، كما هي عليه أحوال لبنان، ومع ذلك وصل مسؤولوها الليل بالنهار، وبذلوا الغالي والنفيس، حتى ينجزوا ما عليهم إنجازه، لتوفير مصالح دولهم ورفاهية شعوبهم.

لا حكّام بريطانيا ولا دول الإتحاد الأوروبي الحاليين يتمتعون بسمعة مميّزة، فمنهم من يوصف بالثرثار جدّاً، ومنهم من يوصف بالمتطرف جداً، ومنهم من يوصف بالأسوأ، ومع ذلك لم يسمحوا لأهوائهم بأن تتغلّب على الواجبات ولا لنواقصهم بأن تنقض على المصالح العليا، فجهدوا حتى يكون هناك اتفاق يعلنون عنه، عشية حلول عيد الميلاد.

يدرك هؤلاء أنّ جائحة كوفيد-19 والإجراءات المتّخذة للحد من انتشارها، أرهقت مواطنيهم، فحرصوا، على الرغم من علمانية أكثريتهم، على أن يهدوهم، مع حلول عيد الميلاد، أملاً بغد اقتصادي معقول وبتعاون دولي طبيعي، في وقت تنطلق فيه حملات التلقيح ضد فيروس كورونا هنا وتتهيّأ للانطلاق هناك، بعدما خُصصت لها ميزانيات مادية وإمكانيات بشرية ضخمة.

أمّا في لبنان المسكين حيث يكاد يغيب الفارق بين رجال السياسة ورجال الدين بفعل “فائض الإيمان”، فجائحة كوفيد-19 القاتلة التي تُحارَب فيه كاريكاتورياً-على طريقة منع التجوّل بين الثالثة بعد منتصف الليل والخامسة فجراً-فتُعتبر أصغر الهموم، أمام ما تتسبّب به الأزمات غير المسبوقة على المستويات المالية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، من ويلات، في ظل نبوءات جدية عن حلول وشيك للجوع الكبير.

وعلى الرغم من ذلك، وفي ظلّ تأكيد المجتمع الدولي ومرجعياته المالية والاقتصادية، على أنّ بداية الخروج من المأزق لا تتطلّب إلّا خطوة طبيعية تتمثّل في تشكيل حكومة نزيهة وعليمة ونشطة وقادرة ومستقلة، فإنّ العجز عن الإنجاز يسود، والحيلولة دون نشر الأمل تترسّخ، والحرص على تسييد الشتيمة يتورّم.

يتبادل المسؤولون عن هذه الموبقات الاتهامات. كل ينسب إلى الآخر أطماعه المعروفة ونهمه المعهود. ليس بينهم من يتردّد في ادّعاء الحرص على الدستور، فيما الخطر يقتحم البيوت التي عصف انفجار المرفأ بسقوفها والهجرة بعائلاتها وكورونا بكهولها والقلق بنسائها.

إنّهم، باسم الدستور، ينتزعون حياة هؤلاء الذين من أجلهم كان الدستور.

ألا يخجل هؤلاء؟

هذا السؤال الذي يطرحه البعض مضحك. أيخجل من الواقع المزري من تسبّب به؟ أيخجل من صرخة غاضبة من يرضى بقتل نفس راضية؟ أيخجل من أنين مواطن من يبيع أجندات تدميرية لوطنه كلّه؟

موهوم مثل ما كان عليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كلّ من بقي يصدّق كلمة واحدة ينطق بها مسؤول في لبنان.

يزعم هؤلاء المسؤولون أنّهم يجهدون لتشكيل حكومة مستقلة، ومع ذلك يخرجون على مواطنيهم، تبريراً للعجز، بنظريات مثل: هذه الجهة تريد ثلثاً معطّلاً، وتلك تريد السيطرة على وزارتي العدل والداخلية. هذا الفريق لا يتنازل عن وزارتي المالية والصحة، وذاك يصر على وزارة خدماتية تضاف على وزارة الخارجية.

والشعب الذي يموت من المرض، ويئن من الجوع، ويهاجر من اليأس، ويتحسّر على جنى العمر، ويبكي ثورة نزع “حزب الله” المسلّح رحمها، يرسم ابتسامة صفراء وهو يطرح، بآخر الأنفاس التي لا يزال يحظى بها، السؤال الآتي: أيّ حكومة اختصاصيين مستقلة عن المرجعيات السياسية هذه التي تعدوننا بها، بحجة إنقاذنا، فيما أنتم تتصارعون على حصصها؟ وكيف يمكن أن تكون هناك حصص لمن عليه أن يكون خارج الحكومة؟

إنّ هؤلاء المسؤولين يكذبون بسهولة أكبر من تلك التي يتنفّسون بها. هم يهتمون حصراً بمكتسباتهم، بمصالحهم، بأنفسهم، بأقاربهم، بأنسبائهم، وبمواقعهم، بينما الشعب متروك للصدفة حيناً وللصدَقة أحياناً.

في عيد الميلاد، اكتملت الرواية الإنجيلية، لقد بات اللبنانيون أقرب ما يمكن أن يكون إلى طفل المغارة الذي لم يجد له ذووه إلّا المزود مهداً، والزريبة مأوى، ومصر بعد بيت لحم مهجراً، فيما مسؤولوهم أشبه بالملك هيرودس، قاتل الأطفال خوفاً على ديمومة ملكه الدنيوي من ولادة “الطفل السماوي”.

إنّ إنقاذ لبنان، لو لم يكن حكّامه من الطينة الهيروديسية، لكان ممكناً، لا بل لما كان هذا الإنقاذ مطروحاً على بساط البحث، أصلاً.

لبنان قبل اليوم لم يكن فقيراً، بل جرى نهبه على يد الهيروديسيين. لبنان قبل اليوم لم يكن منبوذاً، بل جرى عزله على يد الهيروديسيين. لبنان قبل اليوم لم يكن مدمّراً، بل جرى تفجيره على يد الهيروديسيين.

إنّ عيد الميلاد، لم يكن يوماً إلّا محطة تأمّل بالمعاني السامية التي حملتها الروحانية الإنسانية إلى الأرض.

هذه السنة، يأخذ عيد الميلاد مداه الجوهري، سواء في لبنان، أو في سوريا، أو في العراق، أو في اليمن، أو في ليبيا، حتى تُنجز شعوب هذه الدول الرسم التقريبي لهيرودسها الذي يضطهدها ويقتلها ويهجّرها.

ولهذا، في عيد الميلاد تشخص الأنظار، ليس إلى جمعة الآلام، بل إلى أحد القيامة.