لغة العزم على المصالحة وتطبيع العلاقات بين الدول الست الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي ستغلب على القمّة التي تُعقد في العُلا في السعودية يوم الثلثاء المقبل في الخامس من كانون الثاني (يناير) 2021، وذلك بدفع حكومي وشعبي وسط تململ من الانقسام وخوف من تداعيات المرحلة المُقبلة في صفحة العلاقات الأميركية - الإيرانية. الأرجح ألاّ تحدث قفزة واحدة وإنّما أن تقرّ القمّة خطوات مُتتالية في مسيرة لمّ الشمل الخليجي العربي الذي تبعثر في محطّات عدّة منها ما له صِلة بالعلاقات مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية المُصرّة على التوسّع في الجغرافيا العربية ومنها ما له عمق مع جماعة "الإخوان المسلمين" وتركيا رجب طيّب أردوغان المشرف على توسّع مشروع "الإخوان" في المنطقة العربية.

قادة الدول الست، السعودية والإمارات والكويت وعُمان وقطر والبحرين، يبحثون عن وسائل نزع الفتيل de-escalation مع طهران وأنقره وسط خلافات جوهرية في ما بينهم حول تشخيص العلاقات العربية مع إيران وتركيا. الولايات المتحدة ليست موضع خلاف في اطار العلاقات الأميركية - الخليجية سواء كانت جماعية أو ثنائية، لكن غموض ما ستأتي به إدارة الرئيس المنتخب جو بايدن في شأن هذه العلاقات كما في صدد ظروف وشروط إحياء الاتفاق النووي مع إيران JCPOA قد يجعل من الصعب إعلان الاستراتيجية المطلوبة أثناء انعقاد القمّة الخليجية. لكن هذا لا ينفي الحاجة الى استراتيجية استباقية خليجية يجب إقرارها وتسويقها بأسرع ما يمكن مع إدارة بايدن قبل أن تتخذ خطوات يصعب عليها التراجع عنها ستكون مُكلِفَة للمنطقة العربية كلها.

الاستراتيجية المطلوبة لها أبعاد تتعدّى البوتقة الخليجية - الخليجية المُهمة جداً للدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، والتي ستكون لها الأولوية في قمّة الثلثاء كما يبدو بناءً على ما صدر من مواقف التهيئة للقمّة المهمة.

فهذه أول قمّة منذ اتفاقات السلام مع إسرائيل التي أبرمتها دولة الإمارات والبحرين ويبدو أن عُمان وغيرها تستعد لها، ما يعني أن موازين القوى التقليدية في الشرق الأوسط ستتخذ قالباً جديداً أثناء القمّة وبعدها. إسرائيل لها اليوم علاقات تطبيعية واتفاقات سلام مع دول عربية عدّة تشمل مصر والأردن والإمارات والبحرين والمغرب والسودان. وهذا يتطلّب بالضرورة أن تتبنّى هذه الدول مقاربةً جديدة نحو إسرائيل ونحو السلطة الفلسطينية، كما نحو "حماس" التي تحظى بدعمٍ من كل من قطر وتركيا، ونحو إدارة بايدن التي سترث ما صنعته إدارة دونالد ترامب في العلاقات العربية - الإسرائيلية.

بكلام آخر، من الضروري إبقاء النار مُشتعلة تحت أقدام hold their feet to the fire إسرائيل أولاً، قيادة وشعباً، كي لا تعتقد أن صفحة التطبيع تعني الإعفاء من المحاسبة إذا نكثت بوعود إيقاف سياسة ضمّ أراضي الضفّة الغربية وغور الأردن أو إذا غامرت بتعريف يهودية الدولة على أنها تأشيرة، إما للطرد الجماعي أو لتحقير المواطن الفلسطيني داخل إسرائيل. من الضروري الإصرار لدى إسرائيل على أن استمرار التطبيع يقتضي تحقيق قيام دولة فلسطينية وأن هدف التطبيع ليس أبداً القفز على هذا الحق. الدول العربية التي وافقت على إبرام الاتفاقيات هي التي يجب اليوم أن تتبنّى استراتيجية استباقية قوامها الاستفادة من الاستثمار في السلم مع إسرائيل، ليس فقط كدول سيادية وإنما كدول قيادية وأساسية في موازين القوى الإقليمية التي تضم إيران وتركيا وإسرائيل والوزن العربي الذي لمصر والإمارات والسعودية مساهمة أساسية فيه.

ستصدر القمّة الخليجية بالتأكيد موقفاً يؤكّد مبادئ المبادرة العربية للسلام مع إسرائيل، لكن هذا لا يكفي إذا جاء خالياً من الإطار الجديد بتجاهلٍ للنقلة النوعية في العلاقات الخليجية - الإسرائيلية. بكلام آخر، لا بد من الأخذ في الحساب أن اسرائيل قد اعتادت على معادلة "خُذ وطَالب" وأن الوقت حان لإبلاغها أن عليها التوقّف عن هذه العادة لأن استمرارها بها سيؤدي الى غير ما تتوخاه.

إدارة بايدن لن تجرؤ على الاستهتار بما ورثته من إدارة ترامب في الشأن الإسرائيلي لأن إسرائيل مسألة داخلية domestic أميركية وليس فقط الحليف الأول للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. البعض في فريق بايدن يعتقد أن الصفحة الجديدة بين الدول العربية الخليجية وإسرائيل صفحة مستقلّة عن المسألة الإيرانية لدى كلٍّ من الطرفين الخليجي والإسرائيلي، وأن العلاقات الثنائية مع واشنطن تتصدّر الاهتمامات والتطلّعات إن كان لجهة شراء الأسلحة المتطورة أو لجهة تأمين المصالح المشتركة. البعض الآخر له رأي مختلف جذرياً إذ إنه ينظر الى العلاقة الثنائية الأميركية - الإيرانية بأنها ذات أولوية قاطعة في المرتبة الثانية للعلاقات الأميركية - الإسرائيلية وهو يرى أن تطبيع العلاقات الخليجية - الإسرائيلية يُشكّل عبئاً وربما عرقلةً لإصلاح العلاقات الأميركية - الإيرانية.

ما على القمّة الخليجية أن تفكّر به بعمق هو إصدار موقف واضح نحو أسلوب المرحلتين أو الخطوتين الذي قال الرئيس المُنتخب جو بايدن انه في باله في الموضوع الإيراني. معارضة ومقاومة هذا الأسلوب باكراً أمران ضروريان لأن العودة شبه التلقائية الى الاتفاق النووي مع رفع العقوبات كخطوة أولى تليها خطوة التفاوض على السلوك الإيراني إقليمياً وعلى الصواريخ الباليستية والصواريخ الدقيقة إنما يعني إطلاق يد "الحرس الثوري" الإيراني في مجالي السلوك الإقليمي واستخدام وتصنيع الصواريخ الدقيقة بما في ذلك عبر "حزب الله" في لبنان.

قد ترى دولٌ خليجية أن مصلحتها تقتضي التركيز على إصلاح وترتيب البيت الخليجي والابتعاد من مناطق التوتّر العربية مثل سوريا والعراق ولبنان، لكن تصدير "الحرس الثوري" قدراته وتشعباته لن يقتصر على هذه الدول، بل إنه سيسترسل أكثر في الدول الخليجية عبر "حزب الله" وغيره بعدما يرتاح من العقوبات بموجب المرحلة الأولى من استراتيجية المرحلتين. كذلك الأمر في ما يتعلّق باليمن. المعركة الخليجية - الخليجية داخل ليبيا لها معطيات مختلفة وليس المطلوب توسيع المعارك الخليجية - الخليجية بالنيابة في ساحات عربية أخرى.

المطلوب هو عدم تشجيع نزعة الانعزالية لدى بعض الأوساط الخليجية العربية. فإذا ارتأى الشعب الخليجي أن مصلحته تكمن في ترتيب البيت الخليجي أولاً، له كل الحق في ذلك. أما إذا ظنّ أن انفصاله عن البيئة العربية يخدم مصلحته، فإنه في ذلك يرتكب خطأً فادحاً. فالعمق الاستراتيجي المشرقي والمغربي إنما يشكّل أصولاً ثمينة asset للنمو الخليجي، وكثير من القيادات الخليجية يعي ذلك تماماً ويتصرّف على أساسه.

فلبنان مثلاً بات أداةً حادة في أيادي "الحرس الثوري" وما قد يكون في ذهن قياداته على نسق الانتقام لمقتل قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني قبل سنة يتمّ صنعه وإعداده أحياناً كثيرة في لبنان. فإذا غسلت القيادات الخليجية يدها من لبنان لأنه عامر بالفساد المقيت وسيطرة "حزب الله" عليه، تخطئ بحق نفسها لأنها تهجر ساحة وتتركها مفتوحة للفوضى ولتصدير النقمة والانتقام اليها والى جوارها. وليت القمة الخليجية تأخذ هذا الأمر في الحسبان.

الأيام المقبلة الى حين انتقال البيت الأبيض من الرئيس دونالد ترامب الى الرئيس المنتخب جو بايدن في 20 كانون الثاني (يناير) الجاري لن تكون تقليدية بهدوئها بل قد تكون صاخبة. تاريخ الخامس من كانون الثاني (يناير) هو تاريخ التصويت الأخير في ولاية جورجيا الذي سيحسم إن كان مجلس الشيوخ سيكون بأكثرية جمهورية أو أكثرية ديموقراطية- وهذا أمر فائق الأهمية. فوقوع مجلس الشيوخ في أيادي الحزب الديموقراطي يعني عملياً انه طليق الأيادي ليفعل ما يشاء، فيما إذا وقع في أيادي الجمهوريين ستكون معادلة المساءلة والمحاسبة أقوى. وهذا أمر محوري في السياسة الخارجية وليس فقط في السياسة الداخلية.

في السادس من كانون الثاني (يناير) الجاري يُفتَرض ان يُعلَن رسمياً فوز بايدن بالانتخابات. ماذا سيفعل ترامب وفريقه من الآن حتى 20 الشهر الجاري يعتمد كثيراً على ما سيحدث الأسبوع المقبل بالذات في انتخابات جورجيا.

القلق لدى القيادات الإيرانية واضح وملامح التهوّر عادت لتحلّ مكان النشوة بفوز بايدن بالرئاسة الأميركية لتتمثّل بلغة الثأر لمقتل قاسم سليماني ليس فقط على لسان اسماعيل قاآني قائد "فيلق القدس" أمام مجلس النواب في جلسة مغلقة حيث أبلغ البرلمان ان الميليشيات الموالية لإيران في المنطقة باتت في جاهزية للثأر، وإنما أيضاً على لسان الرئيس حسن روحاني. والسبب، كما تقول مصادر مطّلعة على التفكير في طهران، هو أن القيادات الإيرانية تتوقّع وتخشى عملية عسكرية ضد مواقع نووية وصاروخية يعدّ لها ترامب كي يكبّل أيادي بايدن ويعطّل الهرولة الى تطبيق أسلوب المرحلتين. وبحسب المصادر المطّلعة على تفكير فريق ترامب، أن الجاهزية الأميركية لمثل هذه العملية العسكرية اختمرت وهي رهن القرار السياسي.

وسط هذه الأجواء، لن تكون مَهمَّة قمّة العُلا سهلة وقد يكون التركيز على المصالحة مع قطر التي تقودها السعودية قراراً حكيماً لا سيما أن الإمارات أكّدت على لسان وزير الدولة للشؤون الخارجية أنور قرقاش في تغريدة عبر "تويتر" التطلّع الى قمة ناجحة "نبدأ معها مرحلة تعزيز الحوار الخليجي" وأن "إدارة" السعودية لهذا الملف هو "موضع ثقة وتفاؤل" ضمن "خطوات تعزيز الحوار الخليجي تجاه المستقبل".