لم تغرب شمس عام 2020 حتى أبرمت بريطانيا والاتحاد الأوروبى صفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، وهى التى ستحدد علاقتهما لعقود قادمة. بعد 24 ساعة من المساومة فى اللحظة الأخيرة حول حصص الصيد. أشاد بوريس جونسون بالاتفاقية، ووصفها بأنها «معاهدة عظيمة» سمحت للمملكة المتحدة «باستعادة السيطرة على مصيرنا»، وحل السؤال الذى «أربك» السياسة البريطانية لعقود بين انفرادها التاريخى بحق الدول العظمى وأنها باتت فى النهاية دولة فى المجمع الأوروبى الكبير. وقال «جونسون»، فى مؤتمر صحفى فى «داونينج ستريت»: «تعنى هذه الصفقة استقرارًا جديدًا ويقينًا جديدًا فيما كان فى بعض الأحيان علاقة صعبة ومشتتة». «على الرغم من أن الخلافات مع أصدقائنا الأوروبيين كانت شرسة فى بعض الأحيان، فإننى أعتقد أنها صفقة جيدة لأوروبا بأكملها.» خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبى على عكس كل ما كان شائعًا فى أوروبا والعالم منذ نهاية الحرب الباردة، التى لم تُسقط فقط الاتحاد السوفيتى وكتلته «الاشتراكية» ولكن أسقطت معهما فكرة تقسيم العالم إلى دول وطنية ذات سيادة. أو هكذا كانت الرؤية «الغربية» لحركة التاريخ، الذى حدث أنه وصل إلى نهايته مع سيادة التفكير الليبرالى الديمقراطى الرأسمالى، الذى تنتقل فيه الأفكار والثقافات كما تنتقل السلع والبضائع. وبشكل ما، فإن الاتحاد الأوروبى، الذى كان قد صدق توًا على قواعد الحريات الأربع- العمل ورأس المال والبضائع والخدمات- فى الانتقال بين الدول الأعضاء، كان هو الأكثر جاهزية للتعامل مع «النظام العالمى الجديد»، وفق الوصف الذى وضعه الرئيس الأمريكى جورج بوش الأب. أستاذنا الكبير، رحمه الله، الدكتور بطرس غالى، الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، حاول أن يُقيِّم هذ النظام العالمى من خلال سلسلة من المؤتمرات الكونية، التى تبحث فى قضايا كوكب الأرض ويبحث عن حل لمعضلاتها.

.. سواء كانت الاحتباس الحرارى أو قضايا المرأة أو المعضلات التى تقف أمام النموذج الذى بات منطقيًا متفاعلًا مع التطورات التكنولوجية، التى بدأت بالكمبيوتر الشخصى ولم تنته مع التليفون الجوال.

فى أوروبا كانت الفرصة كبيرة، بعد أن تحررت دول أوروبا الشرقية، ومرت بمراحل ثورات مختلفة ملونة أحيانًا ومخملية أحيانًا أخرى، ومتعطشة فى كل الأحوال للاندماج فى الغرب، سواء كان ذلك حلف الأطلنطى أو الاتحاد الأوروبى. ولم يمضِ عقد من الزمان إلا وأصبح الاتحاد محتويًا على 27 دولة أوروبية، ولديها قائمة من الدول مثل تركيا تريد الانضمام هى الأخرى. المدهش أن بريطانيا فى ذلك الوقت كانت هى التى تحمست بشدة من أجل «توسيع» الاتحاد بضم الدول وليس بالضرورة «تعميقه» باتخاذ خطوات وحدوية أكثر قوة، منها العملة المشتركة «اليورو» والشخصية الدولية المشتركة «شنجن». فى كلتيهما ابتعدت لندن، ولكنها كانت أول مَن كانت شكواه الكبيرة هى ما الذى تفعله فى حركة العمالة والمال والجريمة القادمة من شرق أوروبا. كانت بريطانيا منقسمة ما بين رغبتها فى الوصول إلى الحدود الروسية اتقاء لشرور تاريخية وتوازنات قوى نووية غير مواتية، ورغبتها فى توقِّى التفاوت الكبير بينها وبين الأعضاء الجدد، وما نتج عنه من أزمات داخلية. ما جعل الواقع أكثر تعقيدًا وصعوبة أن التطورات التى جرت فى الشرق الأوسط وإفريقيا سرعان ما دفعت قوافل من اللاجئين إلى الساحل الأوروبى، وباتت عليه المشاركة فى تحمل أعباء القادمين من مناطق صراعية وأصولية، وذات ثقافات مختلفة، يمكن أن يذهب البريطانيون إليها غزاة أحيانًا وتجارًا أحيانًا أخرى، ولكن أن يلتقى الشرق والغرب معًا فذلك ليس من قواعد الطبيعة المقبولة.

خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبى ومن أعبائه وعلاقاته العولمية، التى باتت مغموسة فى الفيروس التاجى، فى الوقت الذى دخلت فيه الولايات المتحدة فى آخر فصولها الانتخابية، ليس فقط لأن دونالد ترامب قد خسر الانتخابات، وإنما لأنه قرر أن الانتخابات التى لا يكسبها لابد أن تكون مُزوَّرة. لم تكن القضية هى أن ترامب قضى فترة واحدة فى الرئاسة، فقد حدث ذلك من قبل لكنيدى وجونسون وفورد ونيكسون وكارتر وبوش الأب، بالطبع لأسباب مختلفة، وإنما لأن ترامب رأى فى الخسارة تناقضًا كبيرًا مع حقيقة أن 75 مليونًا من الناخبين الأمريكيين الراشدين والمتعلمين والمُطَّلعين على أشكال مختلفة من الإعلام الحر قد صوتوا له فى الانتخابات. هؤلاء لم يعنِهم كثيرًا ما هو ثابت ومعلوم عن حقيقة ترامب الأخلاقية والسياسية، ولا حتى حقيقة تفاديه دفع الضرائب، أو حتى علاقاته المشبوهة مع روسيا، أو أسلوبه فى الإدارة السياسية التى قزّمت المؤسسات الأمريكية جميعًا، ولا التداول السريع للعاملين معه. هؤلاء جميعًا كان لديهم استعداد كبير للمغفرة، والهجوم على مبنى الكونجرس ليس فقط لأنهم مقتنعون تمامًا بنظرية المؤامرة وبأقوال زعيمهم دونالد ترامب، وإنما لأنهم يريدون الخروج من العولمة، التى أتت لهم بأنواع من «العولمة المضادة»، التى تقوم على الأصولية الدينية والإرهاب كما فعل «القاعدة» وكانت هجماته الكبرى ليس فقط فى العالم العربى أو عواصم إفريقية، وإنما فى نيويورك وواشنطن. أو «العولمة الصينية»، التى ظاهرها «الحزام والطريق»، ولكن حقيقتها هى نقل 500 مليار دولار من الولايات المتحدة وحدها إلى الصين سنويًا لكى يكون لديها من الاحتياطى النقدى 1.8 تريليون دولار، فضلًا عن شبه احتكار لسلاسل التوريد الصناعية، واختطافها المصانع الأمريكية، وما تبقى منها ذهب إلى المكسيك.

«العولمة المضادة» أخذت بريطانيا إلى البريكسيت، وأخذت الولايات المتحدة إلى ترامب وسياساته المناقضة لما هو معتاد على الساحة السياسية الأمريكية، والتى رأت فيها أولًا قيادة أمريكا للعالم، وثانيًا تصورًا مثاليًا لعالم أكثر استقرارًا وسعادة وغنى. المعضلة أصبحت فى جدل الواقع أن بريطانيا- الإمبراطورية التى لم تكن الشمس تغرب عنها سابقًا- والولايات المتحدة، التى تصورت أن وصولها إلى القمر يعطيها رخصًا كثيرة لقيادة الكوكب، باتت كلتاهما مستقبلًا للعالم برؤيته وثقافته وتوجهاته الاقتصادية. المدهش كذلك أن كافة المُعلِّقين الغربيين، خاصة فى الولايات المتحدة وبريطانيا، رأوا فيما جرى مؤخرًا فى «الكابيتول» الأمريكى مشهدًا من مشاهد «العالم الثالث»، والعجب فيما جاء هنا أنه عندما جرت أحداث مماثلة لم يكن التفسير الغربى مماثلًا بالحديث عن التحريض والاعتداء على القانون والدستور ومخالفة التقاليد الديمقراطية، وإنما كان حديثًا عن الاضطهاد والقمع والتخلف بصورة عامة. لم تكن المسألة تحتاج إلى الفهم والتحليل للمتغيرات المختلفة، وإنما تحتاج إلى تصنيف يُبقى العالم الثالث كما هو عليه فى الصورة الغربية التى أرادها. وعندما كتب باراك أوباما وغيره عن مصر وربيعها المغدور لم يروا فى الصورة كتائب الإخوان الأمنية، ولا المُحرِّضين على الإطاحة بما هو قائم والعجز تمامًا عن تخيل ما سوف يكون. العولمة لعبت وتلعب دورًا فى تغيير أمريكا والعالم الغربى، كما تفعل من ناحية أخرى مع بقية العالم. والأمر فى كلتا الحالتين يحتاج نظرة فاحصة، فلكل فعل رد فعل مساوٍ له فى المقدار ومضاد له فى الاتجاه.