“إنّ أوسع ميدان للمعرفة كان وسوف يظلّ منطويًا على شيء من الجهل”!. ستحتاج إلى قطع مسافة أكثر من نصف الكتاب لتصل إلى هذه النتيجة!. وكأنّ الكتاب عمر طويل لن تتفتّح لك الحكمة قبل بلوغ منتصفه أو أكثر بقليل!. قريبًا من نهاية الكتاب، فقط، ستقرأ هذا الاعتذار: “لقد سرتُ بكم في صحراء كثيرة الرمال. أمّا الآن،..، فسوف نبدأ بتذوّق الماء في جوز الهند”!.
- أتحدث عن كتاب: “البراغماتيّة” لـ”وليم جيمس” بترجمة “وليد شحادة”. كتاب مهمّ، والتشويق فيه يأتي تدريجيًّا، لكن عليك دخوله باستعداد مسبق الرحابة لتقبّل آراء وأفكار تعارض قناعاتك، بل، ومن الآخر، معتقداتك!.
- يتحدّث الكتاب عن “البراغماتيّة” كفلسفة بديلة عن “اللا أدريّة” على الأقل!، أو كحلّ ثالث أكثر من كونه حلًّا وسطًا بين الماديّة والمثاليّة!. هذا ما خلصتُ إليه كقارئ، أمّا الكتاب نفسه فلا يعرض “البراغماتيّة” إلا على أنها طريقة “تنزع إلى تَلْيِين جميع نظريّاتنا”!.
- لكل فلسفة: وعد ووعيد!. ولمعرفة وعد الفلسفة “البراغماتيّة”، فليس أقلّ من قراءة الكتاب كاملًا. أمّا وعيدها، فيمكن نقله سريعًا: “ألا.. ويْلٌ لكلّ من تعبث معتقداته بالترتيب الذي تسير عليه الحقائق في خبرته: فهذه لن تقوده إلى أي مكان، وإنْ قادته فسوف تُقيم ارتباطات غير صحيحة”!.
- المحاضرة الخامسة وعنوانها: “البراغماتيّة والإدراك”، فيها من المتعة والرشاقة الفكريّة ما يؤكد أحقيّة المحاضرات الأربع السابقة بالحضور وملاحقة ما يليها!. وفيها يشير الفيلسوف “وليم جيمس” إلى أنّ معرفتنا تنمو على شكل طفرات!
- قد تكون هذه الطفرات كبيرة أو صغيرة، لكن المعرفة لا تنمو بكليّتها فجأة!.
بعض المعارف القديمة ستبقى، أو شيئًا من أي معرفة قديمة، سيبقى على حاله!. بما في ذلك المنطق القديم المؤدّي إلى اكتسابها!. وهو ما يقودنا إلى “تحيّزات” عاطفيّة وفكريّة، أَرَدْنَا أم حَرَدْنَا!.
- يذهب الكتاب إلى أن العقل البشري، لا يتقبّل، غالبًا، أي حقيقة جديدة، إلا بعد أن “تُطبخ في مَرَقِ المعلومات القديمة”!.
لافتة دانمركيّة: “نحن نعيش إلى الأمام، لكننا نفهم ونُدرك باتجاه الخلف”!.
- “الخبرة لا تأتينا مُعلّبة وتحمل اسمًا”!. الماضي يتحكّم في تفسير الجديد على ضوء ما هو معروف مسبقًا، وكل ما يميّز أصحاب العقول المتفتّحة عن أصحاب العقول المنغلقة أو الأقلّ تفتّحًا واستعدادً، هو نسبة المرونة في “التعاون”!.
إذ تبدو على أصحاب التفتّح مرونة ممتازة في تعاون معارفهم السابقة مع اللاحقة!. فإن كان هذا هو كل ما هنالك، فإن العقل البشري في أعلى حالاته، يُصلح ويُرمِّم، ويقوم بتَسْوِيَات، أكثر ممّا يُجدِّد!. “قد تَغسِل الزّجاجة بالماء كثيرًا وكثيرًا، لكنك لن تستطيع أن تُزيل منها طعم الدّواء أو “المشروب” الذي مُلئتْ به أوّل مرّة”!.
- وليم جيمس، المتوفّى 1910، ليس مؤلفًا لكتاب “البراغماتيّة” فحسب، لكنه أحد صانعي “البراغماتيّة” كفلسفة، حيث لا حقيقة دون تفاصيل!. وحيث سؤال البراغماتيّة المعتاد: “هَبْ أن الفكرة والمعتقد صحيح، فما الفارق الملموس الذي يصنعه كونها صحيحة وحقيقيّة في الحياة لأي فرد؟!”. والجواب البراغماتي: “الأفكار الصحيحة هي تلك التي نستطيع تمثّلها وفهمها وتثبيتها وتعزيزها”!، وكل ما دون ذلك يخرج عن كونه فكرة صحيحة أو حقيقيّة!.
- لماذا هذه الدعوة لقراءة الكتاب، لأسباب كثيرة، فلسفية وجماليّة، أو على الأقل لنعرف كيف تفكّر أمريكا!، وعلى أي أسس تُقيم علاقاتها وتصنع سياساتها!. حيث الحقيقة اليوم قد تكون كذبة الغد!. لأن الحقيقة، براغماتيًّا، هي ما يمكن التحقق منه مثلما هي ما يمكن تحقيقه!.
- من الجانب البراغماتي يُمكن للحقيقة أن تُصنع وتُبتَكَر حسب الحاجة!. الحقيقة البراغماتيّة التي تؤمن بها أكبر دولة في العالم، مرتبطة بعلاقة وثيقة، ومباشرة، بالمصالح العمليّة وبالأسباب الشخصيّة!.
هي سيّدة جليلة رائعة، بمقدار ما هي خادمة ذليلة نافعة!.
- غدًا، وفي “بلكونة” الجمعة، التي اتفّقنا، وتعوّدنا، على تخصيصها لمقتطفات من كتاب، سيكون لنا، بإذن الله، لقاء آخر مع كتاب “البراغماتيّة”.
خميس ونيس، بإذن الله،.. سلام!.