تسيير العمل داخل المنظمات بنجاح مستمر وكامل أمر مستحيل، لا بد من التعامل مع الأخطاء والفشل ووضعيات الخروج عن المسار التي لا تنتهي. وقد يكون التعامل مع هذه المنغصات بالتعلم، والتصحيح والمسامحة والقبول، وهناك كذلك خيارات أكثر تطرفا مثل التجاهل التام أو نقيضه من التشهير والتضخيم والحدة. هناك اليوم نداءات متكررة للتسامح مع الفشل بعده أحد أهم طرق التعلم المبني على التجربة، وهناك دعوات لقبول التنوع أو التحلي بالمرونة مع كثير من السلوكيات الغريبة أو الجديدة على ثقافة المنشأة. لذا السؤال الذي نطرحه، ما معيار التسامح هنا؟ إلى أي أحد يمكن القبول بحالات الخروج عن المسار دون إساءة استخدام مفهوم التسامح مع الفشل؟ أو بمقايضة عادلة مع المكاسب التي قد نجنيها بقبول سلوك غير مقبول. على سبيل المثال، لمح بعض المغردين أن قبول سرقة أحدهم مبلغا بسيطا مقابل تحقيقه الهدف المطلوب وتجاوزه بمقدار كبير أمر عادي، في الحقيقة شاهدت عديدا من التنفيذيين الذين يؤمنون بهذا المبدأ رغم تمسكهم الظاهر بالمعايير الأخلاقية.
تقييم معيار التسامح مبني على معرفة طبيعة الأخطاء وآثارها المحتملة، لذا لا بد من تصنيف حالات الخروج عن المسار ومن ثم التعامل معها حسب طبيعتها. هناك من الأخطاء ما يستوجب المعالجة والتصحيح وربما التحقيق والمحاكمة، وهناك ما يستوجب التحليل والتعلم وربما التصفيق كذلك. في المنظمات الناضجة ستجد مسارات مخصصة للتعامل مع حالات الخروج عن المسار وسيكون معيار التسامح والقبول واضحا إلى حد ما، بينما ستجد في المنظمات الأقل نضجا عشوائية في التعامل مع هذه الحالات، قد تغطيها حكمة المسؤولين والتنفيذيين، وقد تزيدها سوءا. تدفع اليوم المتطلبات التنظيمية وأفضل الممارسات بتطبيق عدد من البرامج والأدوات التي تؤطر التعامل مع هذه الحالات، مثل أنظمة الرقابة الداخلية والمخاطر التشغيلية والتحكم في الإجراءات والأداء والجودة. لكن بعيدا عن نطاق عمل هذه البرامج والأدوات ومستهدفاتها، يمكننا تصنيف حالات الخروج عن المسار ودرجة التسامح المرتبطة بها بشكل مبسط وفق خمس مجموعات أسردها تباعا.
المجموعة الأولى، من حالات الخروج عن المسار تشمل كل ما يرتبط بالتجاوزات الأخلاقية والسلوكية التي تنشأ على المستوى الفردي ولا ترتبط بتحقيق مكاسب مادية بالضرورة، خصوصا ما كان واضحا وجليا مثل التحرش والتعنيف والتجاوز اللفظي. قد تكون هناك تحديات ثقافية وتنظيمية مرتبطة بالتبليغ عن هذه التجاوزات، لكن التحدي الأكبر يحدث عندما تكون هناك درجة من القبول والتسامح لها. بالطبع لن يقبل أحد أو يتسامح مع حدوث حالة تحرش أو ضرب مثلا، لكن التجاوز اللفظي يكاد يكون مقبولا لدى البعض. هناك أمثلة عديدة لمدير منجز لكن لسانه بذيء، أو شخص يخلط الجد بالمزاح ويكثر من التجاوز ويغطي ذلك بشخصية مرحة أو معطاءة لموظفيه. عند هذه الحالات يرتفع معيار التسامح لدرجة سلبية تدمر ثقافة المنشأة وتؤصل لانتشار التجاوزات داخل مكان العمل. لذا، يجب أن يكون التعامل مع هذه التجاوزات مبنيا على مبدأ: لا تسامح.
المجموعة الثانية، ترتبط بالتجاوزات الأخلاقية ذات العلاقة باستغلال السلطة أو الموارد لتحقيق مكاسب شخصية مادية أو غير مادية. وهنا نجد أن كثيرين يرفضون هذه الحالات لكن ربما يربطونها بحجم المكسب الذي يتم الحصول عليه. مثلا مدير يجيز منفعة لا يستحقها حسب سياسة الشركة لشخصه أو أسرته كمن يصلح سيارته على حساب الشركة، أو موظف ناجح ومنجز يسرق مبلغا تافها باعتبار أنه يحقق أهدافا كبرى تتجاوز هذا المبلغ. التسامح هنا خطأ كبير، حتى لو كان المكسب الشخصي المتحقق صغيرا نسبيا. حجم الاختلاس لا يغير الواقع ويؤثر بشكل كبير في مبدأ النزاهة الذي يفترض وجوده لدى هذا الشخص، لذا في هذه المجموعة أيضا يكون المبدأ: لا تسامح.
المجموعة الثالثة، ما يرتبط بتجاوزات المتطلبات التنظيمية والإجراءات وأساليب العمل التي يتحقق فيها الإهمال الجسيم، خصوصا التي تتكبد بموجبها المنشأة أثرا سلبيا واضحا، سواء كان هذا الأثر خسارة مالية أو تشويها للسمعة أو إضعاف قدرة الإجراءات والجهود الأخرى المرتبطة به. وهنا يرتفع معيار التسامح بعض الشيء لكن لا بد من الاستجابة المباشرة والواضحة بعدة خطوات من ضمنها التسامح المشروط بعد التحقيق والإقرار مع وضع التصحيح والتعلم أولوية للمنظمة والفريق والفرد، قد يستلزم بعض الحالات هنا إيقاع المخالفات والعقاب.
المجموعة الرابعة، هي ما يرتبط بتجاوز الإجراءات وأساليب العمل التي لا يتحقق فيها الإهمال الجسيم، فالموظف قد بذل الحد الأدنى من العناية اللازمة حسب إمكاناته وظروف الموقف ومع ذلك حصل التجاوز، وهنا يرتفع معيار التسامح بقدر أكبر مع وجوب إثبات وتوثيق الموقف أو الحادثة بالتحقيق والإقرار والتصحيح والتعلم.
المجموعة الخامسة والأخيرة، ما يكون خروجا عن المسار لكنه لا يرتبط بشكل مباشر بأي تجاوز لإجراءات العمل وأساليبه، مثل خسارة المبيعات أو فشل مشروع، وهنا يرتفع مقدار التسامح بقدر أكبر من سابقيه، مع وجوب التحليل والتوقف لغرض التعلم والتصحيح. وقد تشمل هذه المجموعة ما قد لا يفسر أصلا بالخروج عن المسار، مثل بعض أشكال قبول التنوع أو مرونة جديدة تكتسبها المنشأة في أساليب إدارة العمل.
تكرار حالات الخروج عن المسار يقلل كذلك من معيار التسامح، لأن التسامح المبني على إضفاء الإيجابية ورفع فرص التعلم يصبح حملا ثقيلا على المنظمة إذا كان يتجاهل تكرار الحوادث ولو كانت صغيرة. التسامح داخل المنظمة أداة مهمة لتطوير السلوكيات والأداء، لكن إذا لم نحدد معيارا واضحا له حسب طبيعة الحالات التي يعالجها يصبح معول هدم وليس أداة بناء داخل أي بيئة تبني كيانها على التعلم والتصحيح.