لطالما أخبرنا التاريخ أن كل ثورة معرفية أو تكنولوجية أنتجت اضطراباً كبيراً، وأظهرت الحاجة إلى جهود وتنظيم من أجل التكيف معها. لذلك، فإن الثورة التكنولوجية الحالية التي يعيشها الأفراد وتتفاعل الدول والمجتمعات مع إيقاعاتها وتطوراتها المذهلة تؤدي - مع مزاياها الفريدة وفوائدها المبهرة - إلى اضطرابات عميقة، وتستدعي جهوداً وموارد وتنظيماً لضبط تداعياتها وإحداث التوازن الملائم بين الأطراف المتفاعلة مع تجلياتها.
انشغل العالم على مدى الأسبوع الفائت بقرار منصة التراسل العالمية «واتساب» بإلزام «مستخدميها» بقواعد استخدام جديدة اعتباراً من فبراير (شباط) المقبل؛ وهي قواعد تتيح لهذه المنصة، التي يمتلكها «فيسبوك» منذ العام 2014، تبادل البيانات الخاصة بـ«المستخدمين» مع الشركات، بداعي مساعدة تلك الأخيرة على «تحسين التواصل مع جمهورها».
وبمجرد صدور هذا الإعلان - الذي يستهدف مناطق معينة من العالم، منها منطقتنا، ويستثنى مناطق أخرى لديها معايير أكثر صرامة لحماية الخصوصية - ثارت موجة من الانتقادات العارمة خوفاً على بيانات «المستخدمين» الخاصة، وطلباً لعدم انتهاك الخصوصية. ثم راح «مستخدمون» كثر ينزحون من «واتساب» إلى برامج تراسل منافسة لا تفرض عليهم هذه القواعد الجديدة التي تنتهك خصوصيتهم وتبيع بياناتهم الشخصية. دركت منصة «واتساب» أنها بالغت في نزعتها الربحية، وأن سعيها إلى تحقيق مزيد من الأرباح عبر مزيد من استباحة بيانات «مستخدميها» يمكن أن يجلب خسائر، ويزعزع مكانتها، ويؤثر في سمعتها، فتداركت الأمر، بأن أعلنت إرجاء تفعيل القواعد الجديدة لمدة 3 أشهر، بداعي منح مزيد من الوقت للجمهور لقراءة شروط الاستخدام الجديدة والموافقة عليها. نحن نعرف أن 9 من أصل 10 من مستخدمي تطبيقات التراسل الإلكترونية لا يطلعون على شروط الاستخدام، وأن بعض تلك الشروط يأتي في نحو 900 صفحة، تتطلب 34 ساعة لقراءتها، وهو الأمر الذي يدفع الغالبية العظمى من الجمهور إلى ضغط زر الموافقة على تلك الشروط من دون معرفتها.
والواقع أن الخلل والاضطراب الكامنين في عالم «التواصل الاجتماعي» وتطبيقات التراسل يتعلقان بأنموذج الأعمال الذي تعتمده هذه الوسائط. وهو الخلل الذي يأتي من فكرة بسيطة، مفادها أن تلك البنى الضخمة المُصممة بعناية، والتي تكمن وراءها شركات عملاقة تربح عشرات المليارات من الدولارات سنوياً، لا تبيع «الألفة والتسرية» فقط، ولا تستهدف إيجاد «منبر منفتح وحر للنقاش العمومي» فقط، ولا تسعى إلى تحسين التفاهم الاجتماعي والعالمي فقط، ولكنها تسعى أيضاً إلى الربح، ولا يمكن أيضاً استبعاد أنها تسعى إلى أن تكون مخزن المعلومات العالمي الذي يضم كل ما يريد أحدهم أن يعرفه عن الآخرين.
ولكي ينجح هذا الأنموذج ويؤدي الهدف منه، علينا جميعاً أن نتفاعل عبر هذه الوسائط، وأن نسجل وندلي ببياناتنا الخاصة لها، وأن تجمعها هي، وتصنفها، وتبيعها لمن يدفع.
يُعد هذا، وبامتياز، تدشيناً لعصر «تسليع الخصوصية». والتسليع هو العملية التي بموجبها يتم جعل الأشياء قابلة للاستبدال والبيع، حتى لو كانت تلك الأشياء مفاهيم معنوية، كما مفهوم الخصوصية.
بسبب تصاعد تلك المخاطر، دعا باحث الحواسيب المعروف جارون لانييه، والاختصاصي الذي يعمل في «مايكروسوفت» غلين نويل إلى فكرة جديدة، اختارا لها عنوان «كرامة البيانات». وفي تفاصيلها أنه من الضروري تأسيس «نقابات» لـ«المستخدمين» للتفاوض بشأن البيانات الخاصة بالجمهور مع الشركات العملاقة والحكومات، للحد من هذا الانتهاك المطرد والتسليع البغيض. وفي مقابل ذلك الاقتراح، ظهرت دعوة لافتة للنظر من حاكم ولاية كاليفورنيا غافين نيوسوم، الذي طالب بسنّ قانون باسم «أرباح البيانات»، يتمكن من خلاله «المستخدمون» من مشاركة الأرباح المتولّدة عن بيع بياناتهم الخاصة للمعلنين والجهات الأخرى مع تطبيقات «التواصل الاجتماعي».
لقد بات واضحاً أن نماذج أعمال شركات التكنولوجيا العملاقة المالكة لتلك الوسائط تتعارض من الناحية الهيكلية مع حاجة «المستخدمين» إلى حماية خصوصيتهم، وهم بسبب هذا الجموح أضحوا مجرد «سلع» تُباع وتُشترى. إن دعوة لانييه لإنشاء نقابات تتفاوض باسم «المستخدمين» الذين صاروا «سلعاً»، بهدف تحسين شروط التسليع، لا تنفي ذلك، كما أن اقتراح نيوسوم الذي يهدف إلى مشاركة الأرباح الناجمة عن «بيع الخصوصية» يؤكد هذا المفهوم، بل يسعى إلى الاستثمار فيه. في العام 2010، تحدث مارك زوكربيرغ عمّا أسماه «نهاية عهد الخصوصية»، وهو كان غير دقيق في إطلاق هذا التعبير، وربما كان ما يقصده «بداية عهد تسليع الخصوصية». الخصوصية قيمة حيوية جديرة بأن تُحترم وتُصان، وانتهاكها عدوان، ومشاركة أرباح بيعها وتداولها في الأسواق أمر محزن ومثير للأسى، والتفريط فيها في مقابل تداول رسائل وصور ليس سوى مهزلة.