حالة الانقسام التاريخي الذي تعيشه الولايات المتحدة الأميركية وتصاعدها خلال العقد الأخير، هي حالة تطرح الكثير من الأسئلة، لا على الماضي وجذورها فيه ولا على الحاضر وأثرها فيه، بل على المستقبل وتأثيرها عليه، والذين يفسرون الظواهر الكبرى بعاملٍ وحيدٍ هم مخطئون دون شكٍ.
ستسعى الإدارة الجديدة في البيت الأبيض بقيادة الرئيس جو بايدن إلى محاولة طمس ولاية الرئيس دونالد ترامب ومنجزاتها واستراتيجياتها، كما سعى ترامب ليصنع مع إرث سلفه أوباما، وبين طمس وطمس يبقى المستقبل مشرعاً لأسئلة لا تنتهي.
دول الخليج دولٌ حليفةٌ للدولة الأميركية منذ عقودٍ طويلةٍ وليست حليفةً لحزبٍ أو تيارٍ، فضلاً عن فردٍ أو شخصية معينة، وبالتالي فقد أثبت تاريخها وحاضرها أنها قادرة على التعامل مع أي قيادةٍ يفرزها الشعب الأميركي وأحزابه وتياراته، وهي قادرة على الدوام على حماية مصالحها ومصالح شعوبها حتى في أحلك الظروف، وشواهد التاريخ لا تحصى.
هل سيكون هناك اختلافاتٌ كبرى في سياسات أميركا تجاه المنطقة والملفات المهمة التي تعنيها بين إدارة ترمب وإدارة بايدن؟ والجواب ببساطة: نعم، فالخلافات قائمة منذ سنواتٍ طويلة وهي خلافات معلنة من كلا الطرفين، وهي ليست خلافاتٍ في التفاصيل، بل في الكليات والرؤى والاستراتيجيات، وقد بدأت الإدارة الجديدة تعلن الكثير من الأسماء والمواقف السياسية المخالفة تماماً لما هو قائم اليوم.
دول الخليج دول مهمةٌ ولها ثقلها في المنطقة والعالم، وقد ازدادت قوةً في السنوات الماضية وفرضت نفسها على كثير من طاولات النقاش السياسي والاقتصادي في العالم، بوصفها ركناً لا يمكن الاستغناء عنه في دعم الاستقرار الدولي بكافة أشكاله، وبالتالي فهي ستظل موجودة على الرغم من كل التحديات التي تواجهها ويواجهها معها العالم بأسره.
هل ثمة تهديداتٌ على دول الخليج قد تشكلها أي تغيرات في التوجهات السياسية للإدارة الأميركية الجديدة؟ نعم بالتأكيد، ولكنه لن يكون شيئاً تعجز دول الخليج عن التعامل معه، فقد قامت تهديداتٌ أخطر في سنواتٍ مضت استطاعت هذه الدول استيعابها بحكمة وصبرٍ وخرجت منها ظافرةً منتصرةً، وهو الأمر الذي سيحدث في المستقبل، فماذا عدا مما بدا؟
هناك حملة إرجافٍ يقودها اليسار العالمي واليسار الليبرالي داخل أميركا بأن الأمور ستنقلب رأساً على عقب في المنطقة وبما لا يصب في مصلحة دول الخليج، وهذا كلامٌ عارٍ عن الصحة، فلغة المصالح أقوى من لغة الأماني، وتحديداً أماني الخصوم، والسياسة ليست شاناً حكمه الربح الكامل أو الخسارة الشاملة، بل عماده المصالح وأفقه التوازنات وأحكامه ترتبط بالنتائج.
هناك تكتل سياسي جديد في المنطقة، وهو تكتل السلام الداعم للاستقرار في المنطقة، وهو قادر على مواجهة التكتلات القائمة على مشاريع طائفية أو أصولية، وقدرته على التأثير كبيرةٌ جداً، إن على الأرض وإن في دوائر القرار الأميركية والغربية عموماً، ووجوده يدل على الرؤية الاستشرافية الصائبة التي بنته وقامت على تعزيزه وتثبيته من قبل.
التحديات والتقلبات والمخاطر هي جزء طبيعي من السياسة، ولو خلت منه مرحلة من المراحل، لانتفى منطق التاريخ وتغيرت طبائع البشر، وهذا أمر مستحيل، ولكن لكل مرحلةٍ من التاريخ شروطها ومواضعاتها ومن يقرأها مبكراً ويساهم في صنعها، يسهل عليه التعامل معها مستقبلاً.
أخيراً، فستواجه الإدارة الأميركية الكثير من التحديات الكبرى داخلياً وخارجياً. والتحديات الداخلية خطيرة ومحتدمة، وسيكون لها أثر عميق على مستقبل أميركا ومستقبل العالم، وهي تشكل واحدةً من أهم وأخطر الملفات التي ستتعامل معها الإدارة الجديدة. وإذا استمرت حدة الانقسام وتصعيده، فستزداد الخطورة، والتاريخ يبقى شاهداً محايداً على ما ستحمله الأشهر والسنوات القادمة.