هناك صفات كثيرة مشتركة بين البشر، وصفات مختلفة فيما بينهم أيضا. والصفات المشتركة نوعان: صفات مشتركة تؤدي إلى التقارب كالبحث عن المعرفة وحب التعلم والشراكة في ذلك، ثم هناك أيضا صفات مشتركة تثير الخلاف كالأنانية الشخصية والإفراط في الطمع وحب الذات. والصفات المختلفة نوعان أيضا: صفات مختلفة بين الناس تقود إلى تقاربهم، ولعل فكرة اليد الخفية The Invisible Hand التي طرحها آدم سميث Adam Smith في القرن الـ 18 للميلاد تقدم تعبيرا عن ذلك. فهي مبنية على ملاحظة أن الاختلاف بين مهارات الناس يؤدي إلى تعاونهم في قضاء احتياجاتهم في الحياة، فهناك من يبني من أجل الجميع، وهناك من يخبز أو يصنع الأدوات والمعدات من أجل الجميع أيضا، وكذلك الأمر في شتى المهن الأخرى. ثم هناك أيضا صفات مختلفة بين البشر تقود إلى تباعدهم، بينها الخلافات العرقية والفكرية الرافضة للتعارف والتواصل.
لا شك في أن العقل البشري هو ما يميز الإنسان عن باقي مخلوقات الله تعالى، وهو ما جعله المتحكم الرئيس في إدارة شؤون الحياة على الأرض وما عليها. وقد تحدثنا في مقال سابق عن العمليات الذهنية لهذا العقل التي تجعله مفكرا ومبدعا ومبتكرا في التفاعل مع الطبيعة من حوله وفي تنظيم شؤون الحياة المختلفة وإدارتها. لكن عقل الإنسان لا ينفذ العمليات الذهنية لعقله البشري بشكل محايد، بل يتأثر برغباته الشخصية، ويتأثر أيضا بالبيئة من حوله، وسلوك الآخرين الذين يتواصل معهم، ليأتي سلوكه حصيلة لكل ذلك. وغاية هذا المقال هي طرح مسألة تأثر تفكير الإنسان بما حوله ومن حوله، وماذا يمكن أن نستخلص من ذلك.
هناك ثلاث عمليات ذهنية Mental Operations رئيسة يقوم بها العقل البشري، تمثل تفكيره في مواجهة أي مسألة. وتشمل هذه العمليات: التعرف Apprehension على المسألة المطروحة، وتحديد صفاتها وخصائصها Judgment عبر تحليل خصائصها ومعطياتها، ثم استخلاص النتائج بشأنها Inference، واتخاذ القرار حول ما يجب عمله تجاهها. وتتأثر هذه العمليات بتوجهات مختلفة بسبب عوامل داخلية ترتبط بصفات الإنسان صاحب العلاقة، وعوامل خارجية تتعلق بالناس والبيئة من حوله كما أسلفنا. ولعلنا نقسم التوجهات الناتجة عن هذه العوامل إلى قسمين: توجهات فكرية في جانب، ثم توجهات نفسية في الجانب الآخر.
إذا بدأنا بالتوجهات الفكرية، واعتبرنا أننا أمام حالة تتمثل في محاولة تواصل بين طرفين يعملان في السوق في قطاع واحد. قد يتفق هذان الطرفان في توجههما الفكري، أو قد يختلفان، وقد يتفقان في الرغبة في التقارب أو قد يختلفان أيضا. في مثل هذه الحالة، هناك عدد من الاختيارات المحتملة. إذا كان الطرفان مختلفين فكريا، كما هو الحال في كثير من الأعمال التجارية على المستوى الدولي، فإن أمامهما اختيار التقارب أو التباعد فيما بينهما. يأتي التقارب هنا مستندا إلى تبادل المصالح، حيث يحقق كل من الطرفين فائدة من ذلك، أي إن النتيجة تكون فوزا للطرفين Win-Win، لكن في حدود الاتفاق، ومع تحييد الاختلاف في التوجهات الفكرية.
إذا لم يتم الاتفاق على التقارب وكان الاختيار تباعدا، فإن النتيجة تصبح منافسة بين الطرفين على المصالح. وقد تتأجج هذه المنافسة وتتحول إلى صراع بسبب اختلاف التوجهات الفكرية، لتكون النتيجة خسارة لأحد الطرفين وربحا للآخر، أو ربما خسارة للطرفين معا نتيجة تأجيج الصراع، حيث يسعى كل طرف إلى الإضرار بالطرف الآخر، فإذا بالضرر يأتي إليه ذاته في أحيان كثيرة.
إذا اتفق الطرفان فكريا، يبقى الاختيار بينهما تقاربا أو تباعدا. في حال التقارب والاتفاق على تبادل المصالح، قد نجد في توافق توجههما الفكري ما يؤدي إلى الشراكة والعمل معا لما فيه مصلحة الطرفين. أما إذا كان الاختيار تباعدا فإن النتيجة ستكون المنافسة، وقد لا تصل إلى مستوى الصراع لأن التوجه الفكري المشترك هنا قد يسهم في وجود ضوابط تمنع تحول المنافسة إلى صراع لا تحمد عقباه.
وننتقل من موضوع التوجهات الفكرية للعقل البشري وأثرها في التواصل، إلى موضوع التوجهات النفسية وأثرها في التواصل. وسنفترض هنا أننا أمام طرفين متساويين يسعى أحدهما، ولندعوه الطرف الأول إلى التواصل مع الآخر من أجل التأثير فيه نفسيا وإقناعه أو استدراجه إلى سلوك يستهدفه لأنه يحقق له مصلحة محددة. وهناك في مثل هذا الإطار ستة أساليب يقترحها روبرت سيالديني Roberts Cialdini الأكاديمي المختص في مجال علم النفس.
يقضي الأسلوب الأول بمبادرة الطرف الأول بالعطاء بما يؤثر في استدراج الطرف الثاني للعطاء أيضا سعيا إلى تحقيق هدف منشود. ويركز الأسلوب الثاني على بحث الطرف الأول عن عامل مشترك، كالهواية مثلا، يجمعه بالطرف الثاني من أجل التأسيس لتواصل ودي يسمح بإقناع هذا الطرف بأمر مرغوب. أما الأسلوب الثالث، فيسعى إلى إبراز إمكانات الطرف الأول المتميزة في الموضوع المطروح بينه وبين الطرف الثاني، ربما عبر طرف ثالث، كي يكون ذلك عامل ثقة للتواصل في هذا الموضوع. ويهتم الأسلوب الرابع بإبراز الطرف الأول لمدى انتشار الأمر المطروح وقناعة الآخرين به أمام الطرف الثاني من أجل إقناعه به. ثم يأتي الأسلوب الخامس ليوجه الطرف الأول نحو إبراز ندرة توفر الأمر المستهدف من أجل جذب اهتمام الطرف الثاني به. ويطرح الأسلوب السادس أخيرا إظهار التزام الطرف الأول بما يقوم بطرحه وانسجام قناعاته الشخصية مع ما يطرحه أمام الطرف الثاني.
لا شك في أن التفكير يجب أن يكون منطلقا لأي عمل يقوم به الإنسان. ولا شك في أن التفكير أيضا ليس محايدا دائما، وإنما قد يكون خاضعا لتوجهات فكرية أو نفسية تقوده إلى هذه الجهة أو تلك. ثم لا شك بعد ما تقدم، أن تعرف الإنسان على المؤثرات الفكرية باتجاه المصلحة، والنفسية باتجاه المشاعر، في أي قضية تشغله، أمر مفيد لاختيار السلوك المناسب في الحالة والوقت المناسبين. والأمل، قبل كل ذلك وبعده، أن تكون مكارم الأخلاق المؤثر الأول في كل عمل نقوم به.