وسط حفل تنصيب استثنائي وغير مسبوق بكل المعاني عاش الأمريكيون، ربما لأول مرة، مشاهد الخوف المرعب والانتظار المقلق وهم يشاهدون عاصمتهم وقد تحولت إلى ثكنة عسكرية لتأمين حفل تنصيب رئيسهم الجديد. ربما يكون البعض من هؤلاء قد تساءل: هل هي لحظة شؤم عابرة في التاريخ الأمريكي وهل كل هذا الاستنفار العسكري والأمني المنتشر في العاصمة الأمريكية واشنطن وعواصم أكثر من 21 ولاية أمريكية يمكن أن يكون ابن لحظته فقط، أم أن الأزمة ممتدة والخطر سيظل يفرض نفسه لوقت غير محدود ربما إلى حين يكون في مقدور الطبقة السياسية الحاكمة من ديمقراطيين وجمهوريين حل معضلة ذلك التيار اليميني المتشدد في تعصبه للعرق الأبيض دون غيره من المكونات والأعراق الأخرى، وإيجاد حلول أمنية وقانونية توافقية لإنهاء وجود تلك المنظمات اليمينية المتطرفة، باعتبار هذه المنظمات تمارس إرهاباً داخلياً وليس مجرد تهديدات أمنية جنائية.

وللتأكيد على جدية هذا التحدي الذي تكشف بضراوته غير المسبوقة في حادثة اقتحام مبنى الكونجرس بتحريض من الرئيس الأمريكي السابق يمكننا رصد ثلاثة مؤشرات مهمة؛ أولها، التحذير الذي ورد على لسان عمدة واشنطن موريل بوزر لسكان العاصمة من أن «الإجراءات الأمنية المشددة الراهنة (تقصد حالة العسكرة والاستنفار الأمني في واشنطن لتأمين حفل تنصيب الرئيس جو بايدن) ستكون الوضع الطبيعي الجديد بعد يوم التنصيب». وزادت بقولها إنها «لا تستطيع توفير إطار زمني لوقت إزالة الحواجز حول مبنى الكابيتول». هذا التحذير لم يأت من فراغ، لكنه فرض نفسه وفق تحذيرات وإشارات أخرى لمكتب التحقيقات الفيدرالي من أن أعضاء تلك التنظيمات اليمينية لديهم خطط لاستخدام مرافق حساسة في واشنطن للدخول إلى مكان الحفل، وأن منهم من يحاولون انتحال صفة أعضاء الحرس الوطني المكلف بالحراسة والتأمين لينفذوا أعمالهم الإرهابية.

ثاني هذه المؤشرات وجود تأكيدات، وفق ما يجريه مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف. بي. آي) بأن عناصر حاليين وسابقين من قوات الأمن المكلف بحماية الكونجرس وأعضاء من النواب والشيوخ يواجهون اتهامات بالمشاركة في أعمال العنف التي تعرض لها الكونجرس، وهذا ما دفع وزارة الدفاع ومكتب التحقيقات الفيدرالي للتدقيق في الخلفيات والسير الذاتية لعناصر الحرس الوطني المشاركة في حماية وتأمين حفل التنصيب. وقال الجنرال ويليام ووكر «نريد أن نتأكد من أننا ننشر الأشخاص المناسبين ضمن الفريق الذي سيتولى حماية أمن الرئيس ونائبته».

ثالث هذه المؤشرات، وربما يكون أهمها هو احتمال وجود انقسام في الولاءات في صفوف الجيش الأمريكي، في ظل ما يعيشه المجتمع الأمريكي الآن من انقسام حاد بين من يؤيدون الشرعية الجديدة وبين من هم يرفضونها ويؤيدون الخطاب السياسي للرئيس السابق الذي يشكك في نزاهة الانتخابات ويؤكد أنه الفائز بها. تردد الجيش الأمريكي في حسم موقفه من الصراع السياسي على السلطة بين معسكر ترامب ومعسكر بايدن، دعم هذه المخاوف، فحسب وكالة «رويترز» أنه وعلى الرغم من اتخاذ قيادة الجيش، بعد تردد وانتظار طال قليلاً، قراراً بدعم شرعية الرئيس بايدن إلا أن هذا «لا يمنع من وجود مخاوف بوجود انقسامات داخله، وأن هناك قسماً كبيراً من الجيش من البيض، وقد يكونون متطرفين يعملون لصالح ترامب»

مؤشرات الخطر ربما تكون أكثر من ذلك في جذريتها التي تفاقم من فرص تعميق حالة الانقسام الأمريكي الراهنة، لذلك أضحى ضرورياً التساؤل عن مدى قدرة الأمريكيين في مثل هذه الظروف الصراعية غير المسبوقة، أن يطوروا لقاحاً يكون في مقدوره منع الانقسام الذي يهدد بالتفكك للولايات المتحدة.

طرح هذا السؤال الآن يصعب أن يجد إجابة عنه ب «نعم» أو «لا» ولكن يمكن، وعلى ضوء هذا الواقع الصعب، تحديد ثلاثة مشاهد للمستقبل الأمريكي: فإما أن ينجح الرئيس بايدن في استعادة «أمريكا موحدة» وفق ما جاء في خطابه أمس الأول وتأكيد حملته على أن شعار «أمريكا موحدة» هو شعار حفل تنصيب الرئيس السادس والأربعين. وإما أن يفشل في مشروعه لإعادة توحيد الأمريكيين، وعلى العكس أن يتمكن دونالد ترامب من فرض نفسه زعيماً لتيار الرفض للطبقة الحاكمة، كلها من الجمهوريين والديمقراطيين، وإما ألا يحدث هذا أو ذاك، أي أن يفشل كلا المشروعين، وألا تكون أمريكا موحدة كما يريد بايدن، وألا تكون عظيمة كما يأمل ترامب، وأن تكون الفوضى والانقسام والتفكك هي المصير المحتوم للإمبراطورية الأمريكية كما هو حال ما سبقها من إمبراطوريات كانت عظيمة في وقت من الأوقات.