جاء بضجة، وخاطب العالم بطريقته الفجة، وزج بالولايات المتحدة بفوضى عارمة عند مغادرته البيت الأبيض، سيذكر التاريخ الكثير عن فترة حكم دونالد ترمب، ولكن أول شيء سيتذكره عنه هو طريقة تركه للرئاسة، وما آلت إليه الولايات المتحدة بعد انتهاء رئاسته. جاء بعده جون بايدن، محمّلاً بالخطط، والاستراتيجيات، والمقترحات، والهموم والمشكلات التي لم تواجهها الولايات المتحدة، آخذاً على عاتقه لملمة بلده من شتات الجائحة وآثارها الاقتصادية، ومن انقسامات أحدثها سابقه.
أميركا اليوم جائعة، هي القائدة للعالم ولكن شعبها جائع مما خلفته الكارثة الصحية التي لا تزال مستمرة في حصد الأرواح فيها. سجلت أميركا خلال السنة الماضية أكثر من 25 مليون حالة «كورونا»، ونحو 430 ألف وفاة، والتوقعات تشير إلى أن الوفيات سوف تصل إلى نصف مليون بنهاية الشهر المقبل. ولذلك كانت أولوية بايدن خلال أول 100 يوم هي أن يوزع 100 مليون جرعة لقاح في البلد، ولا يبدو هذا الموضوع سهلاً بحسب المركز الأميركي لمكافحة الأمراض والوقاية منها.
أعلن بايدن فور توليه الرئاسة خطته الاقتصادية لتجاوز الأزمة، خطة تكلفتها 1.9 تريليون دولار، تشمل 400 مليار دولار لتوفير اللقاح وتوزيعه، و350 مليار دولار مساعدة للولايات والحكومات المحلية، والبقية ستكون مساعدات للشعب الأميركي في شكل شيكات بنحو 1400 دولار للفرد، وزيادة للحد الأدنى للأجور وتعزيز لميزانيات برامج مساعدة العاطلين عن العمل الذي يصل عدد المستفيدين منه اليوم قرابة 16 مليون أميركي. وفي الأسبوع الأخير فقط من ولاية ترمب، انضم أكثر من 900 ألف أميركي لبرنامج مساعدة العاطلين، لتصل البطالة إلى 6.7 في المائة بنحو ضعف ما كانت عليه قبل عام من اليوم. وتبدو خطة بايدن أكثر جرأة من خطة أوباما إبان أزمة 2008 المالية التي شمل أثرها العالم بأكمله، ولم يتجاوز أوباما التريليون دولار حينها، مكتفياً بنحو 800 مليار دولار.
حزمة بايدن هي الثالثة خلال أقل من سنة، كانت الأولى في مارس (آذار) المنصرم بقرابة تريليوني دولار، والثانية في ديسمبر (كانون الأول) بـ900 مليون دولار. شكلت هاتان الحزمتان نحو 14 في المائة من الناتج القومي الأميركي في 2019. والآن يقترح بايدن حزمة ثالثة تبدو موجهة بطريقة مختلفة. فهي موجهة بشكل كبير للشعب الأميركي أكثر منه للشركات، ومع ذلك فقد عبّر بايدن عنها بكونها «ليست مساعدات بهدف أخلاقي فحسب، بل هي أولوية اقتصادية لأميركا». ويعاني ملايين الأميركيين من الفاقة بعدم قدرتهم على الحصول على عمل وبالتالي سداد إيجارات منازلهم وتوفير القوت لعائلاتهم. ولو استمر الحال على ما هو عليه فالولايات المتحدة موعودة بانهيار اقتصادي. هذه المساعدات تبدو ضرورية، ولكنها تثقل كاهل أميركا بالديون، وهي التي زادت ديونها عن ناتجها القومي نفسه. وعبر مسؤول أميركي أن هذه الديون في الوقت الحالي تبدو مبررة، وأن العالم يواجه جائحة تأتي مرة كل 100 سنة!
والنقطة الجوهرية في نجاح خطة بايدن والنفاد ببلاده عبر هذه الأزمة تكمن في سرعة توزيع اللقاح، ففي الوقت الحالي يشكل قطاع الخدمات نسبة كبيرة من البطالة في أميركا. فلا مطاعم ولا مقاهٍ ولا أماكن ترفيه، واستمرار هذا الوضع لقطاع يعتمد بشكل أساسي على اليد العاملة يعني أن ضخ الأموال والمساعدات ليس كافياً. بل إن الحل في عودة هذا القطاع لما كان عليه من قبل، وهذا لن يكون قبل توزيع اللقاح وزيادة مناعة الشعب.
تبدو الولايات المتحدة اليوم في أسوأ حالاتها منذ عقود من الزمن، فهي منهكة من الجائحة، مشتتة من الانقسامات، مثقلة بالديون، وخرجت للتو من انتخابات شهدت أحداث عنف لم تشهدها منذ أكثر من قرن. أميركا اليوم في وضع متأزم، والرئيس الجديد تسلم تركة سابقه الذي يكاد يختلف معه في كل سياساته، وهو اليوم ليس مسؤولاً فقط عن إصلاح ما أفسده، بل هو مسؤول عن إنقاذ البلد من كوارث صحية واقتصادية، ومساعدتها على التعافي من هذه الكوارث لتعود إلى نفس حالتها قبل سنة، ومن ثم الأخذ بها لتستمر قائدة للعالم، ولتواجه التحدي الصين الذي يستلزم أن تكون الدولة في أفضل حالاتها.