يبدو أن توديع الحديث عن الإرهاب وما فيه من المهمات الصعبة، بل والمستحيلة، وآية ذلك أن التنظيمات مثل «القاعدة» و«الإخوان» و«داعش» لها طرقها المعقدة في الكموش والتمدد وادعاء الانحسار. حين أعلن عن دحر تنظيم «داعش» أواخر عام 2017، كتبت أن مهمات كبرى قد أنجزت، ولكن من المبكر إعلان وفاة التنظيم. حين هزّ تفجير ساحة الطيران الوحشي بغداد كان تنظيم «داعش» في أسوأ أحواله بالتأكيد، لكن لديه خلايا على مستوى لا بأس به من التعافي. اليوم نحن أمام عملية نوعية بوحشيتها الفائقة، تأتي بمستوى عمليات «داعش» مثل حرق الطيار، وإغراق الجنود، شكل جديد في مشهدية «داعش» الملعونة والمجنونة.
جزء أساسي من استراتيجية «داعش» أن يتجاوز «إدارة التوحش» لدى «القاعدة»، ويذهب للدرجة القصوى من التصعيد الدرامي لعملياته الانتقامية؛ أن يفجّر انتحاري نفسه بمن أغاث لهفته ولمن لبى نجدته، لا أعتقد أن هذه الصورة قد أقدمت عليها التنظيمات المتوحشة الأخرى، فالتوحش لا يمكن أن يخضع للإدارة كما في كتاب الحاكمية، بل نحن أمام توحش مطلق وعام وشامل.
الجهود المبذولة من الكاظمي وحكومته قوية؛ لقد قام بضربات سريعة عبر التغييرات الأمنية، وإعلان عملية قوية شعارها «ثأر الشهداء»، لكن المشكلة ليست في العمل الأمني على أهميته، وإنما في الاضطراب السياسي والتدخل الإيراني والزعزعة التي تمثلها آيديولوجية إيران، التي تجعل من مهمة هزيمة «داعش» مستحيلة؛ لأن إيران تعرقل عمل الحكومة وتقف ضد مشروع سحق الميليشيات السنية والشيعية معاً.
والكاظمي عقبة بالنسبة لإيران، كما يحلل مصطفى فحص، «الكاظمي معضلة إيرانية لا يمكن معالجتها، فصناع القرار العراقي داخل البيت الإيراني يعانون من انقسام في تقييمه وفي كيفية التعامل معه، فبعضهم يريد مسك العصا من المنتصف معه، فيما بعضهم الآخر يدعو إلى لي ذراعه في هذه المرحلة إلى أنَّ تتوفر فرص إسقاطه، وبين هذا وذاك لا تبدو الفرصة الإيرانية متوفرة، ليس لأنَّ العراق أقوى؛ بل لأنَّ إيران أضعف مما سبق».
إن العملية الإرهابية في بغداد بمثابة إعلان بدء حرب جديدة مع تنظيم «داعش» بعد انكسارها منذ اغتيال أبو بكر البغدادي، والمهمة ليست أمنية داخلية فحسب، بل يحتاج العراق إلى دعم عربي ودولي من أجل إنجاح خطة الكاظمي الطموحة. والسعودية، بكلام وزير خارجيتها الأمير فيصل بن فرحان، حريصة على دعم استقلال العراق ونصرته على كل المستويات، فالخطر الذي يصل إلى العراق مؤشر سيئ لجميع دول المنطقة، ومن دون دعم أميركي مطلق لخطة الحرب الشاملة على الإرهاب، فإن إيران ستستمر بوضع العصي في الدواليب، ولا يمكن لنجاح سحق تنظيم «داعش» أن يتم بمعزل عن تدمير تنظيم الحشد الشعبي وسواه من الفيالق الدموية هناك.
استعراض تنظيم «داعش» عضلاته في بغداد يأتي بالتزامن مع انتعاشه في سوريا، كما يقرأ ذلك الكاتب السوري أكرم البني؛ إذ يعتبر روح «داعش» قد عادت بسوريا ورغم كل الحرب على التنظيم، غير أنه وبحسبه، «قد نجا من الموت والهلاك، وأعاد الروح لنشاطاته العسكرية، معتمداً أسلوب حرب العصابات، ومستقوياً بقدرة عناصره على الانتشار والتخفي ضمن الطبيعة الجغرافية للبادية السورية المترامية الأطراف، والمتصلة مع الحدود العراقية والأردنية والتركية».
وتنظيم «داعش» لديه القدرة على رص صفوفه من جديد. التفاؤل الأمني والسياسي العالمي جاءت نتيجته عكسية، واليوم التنظيم بيديه قنواته على الإنترنت في الوسائط والتطبيقات التي يصعب ضبطها والسيطرة عليها، مثل «تلغرام» أو «واتساب»، وبدرجة أقل في «تويتر» و«فيسبوك»؛ فالإنترنت وسيلته للحشد وكسب الأتباع والانتشار في الدول من دون الحاجة إلى أكلاف باهظة. ذلك ما يؤكده جيمس ستافريديس، وهو أميرال بحري متقاعد بالبحرية الأميركية وقائد عسكري سابق لحلف الناتو، حيث كتب عن دروس يجب تعلمها من الحرب على الإرهاب، وذكر منها «لقد تعلَّمنا تلك الدروس بالطريقة العسيرة من خلال مشاهدة تنظيمي (القاعدة) و(داعش) الإرهابيين وهما يتلاعبان بمختلف مصادر شبكة الإنترنت بخبرة واضحة. وكان من بين الأساليب المهمة المستخدمة في مواجهتهم وهزيمتهم على الفضاء السيبراني، ليس مجرد إغلاق المواقع المتطرفة، وإنَّما أيضاً إعادة توجيه عمليات البحث. وهناك كثير من العمل الذي ينتظر القيام به في هذا المجال».
طوال عام كامل استثمر التنظيم انشغال حكومات العالم بالجائحة وآثارها، واستطاع أن يلتقط أنفاسه بعد الضربات الموجعة التي تلقاها، وما العمليات الأخيرة للتنظيم إلا نتيجة لذلك الانشغال معضوداً بتفاؤل حكومي خطير.. علينا الاستعداد لمواجهة أخطار محتملة يسببها انتعاش تنظيم «داعش» وأخذ كامل الاحتياطات والتدابير؛ فعملية ساحة الطيران المدمرة خطط لها لتكون إعلان العودة ورسالة من التنظيم للعالم بأنهم في الميدان ولديهم القدرة على الضرب والإيذاء.
تعلمنا من سنين مكافحة الإرهاب أن الخسائر تكون قليلة حين نبني استراتيجياتنا انطلاقاً من الاحتمال الأسوأ والاستعداد له. هذا ما يجب علينا تمثله بغية لجم الإرهاب وسحقه واستئصاله والقضاء عليه من الجذور.