كثر في لبنان استعادوا في الأيام الماضية بعضاً من وقائع المؤتمر الصحافي للرئيس الفرنسي ماكرون يوم 17 سبتمبر (أيلول) 2020 عندما تحدث عن «نصب واحتيال في مصرف لبنان والقطاع المصرفي»!

تزامنت الاستعادة مع شيوع الأخبار عن تسلم لبنان طلباً رسمياً من سويسرا يتضمن الدعوة إلى تقديم «مساعدة قضائية» بعد اشتباه القضاء السويسري الذي يحقق في الأوضاع المالية لشركة سويسرية متهمة بغسل أموال بأنه «محتمل أن تكون قد جرت في مصرف لبنان عمليات اختلاس وغسل أموال»… استناداً إلى أن الحسابات المشكو منها تضمنت أسماء عديدين بينهم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه رجا ومساعدته!

يومها وصف الرئيس الفرنسي «الهندسات المالية» التي لجأ إليها رياض سلامة بأنها «هرم بونزي» محكوم عليه بالانهيار! جرت آخر هذه «الهندسات» في عام 2016 وقضت بتوزيع 5 مليارات و500 مليون دولار على المصارف التي تعود نسبة 50 في المائة من ملكيتها إلى المنظومة السياسية. وفقط من أجل إدراك حجم هذه العملية تكفي الإشارة إلى أنها تعادل 10 في المائة من إجمالي الناتج السنوي اللبناني! وقد وسم الرئيس الفرنسي أداء مصرف لبنان والمصارف التجارية بأنه احتيال في خدمة السياسيين، لأنه أدى إلى «حجز أموال المودعين العاديين وتهريب أصحاب النفوذ أموالهم إلى الخارج»، مضيفاً أن أحداً «لم يعد يثق بالنظام المصرفي اللبناني» الذي أتاح بعد «17 تشرين» تحويلات مالية كبيرة إلى الخارج، «بشكلٍ خاص لمن لديه نفوذ سياسي»! وجزم الرئيس ماكرون بأن «التحقيق المالي والتدقيق الجنائي كفيلان بفهم مآلات التحويلات المالية التي جرت من المصرف المركزي ونوعية العمليات التي أدت إلى تبديد السيولة التي كانت لديه».

يتأكد اليوم أن ما قاله الرئيس ماكرون لم يكن مجرد تنبيه أو تهويل. لا شك أنه كانت بين يديه معطيات دقيقة وهو المصرفي السابق وصانع السياسات، تنبه إلى أن مليارات الدولارات تم تحويلها بعد «17 تشرين». كانت هذه الأموال جزءاً من المبالغ الكبيرة التي أخرجت من لبنان بدءاً من بداية عام 2017 حسب ما يؤكد التعميم 154 الصادر عن مصرف لبنان، والأمر الأكيد أن هذه التحويلات لفتت انتباه الجهات القضائية في أوروبا. هنا يقول النائب السويسري فابيان مولينا إنه من البداية طرحت الأسئلة عما إذا كانت مصادر كل هذه الأموال شرعية، وإن الأسئلة عديدة كذلك حول سهولة قبول مصارف بعينها هذه التحويلات الكبيرة جداً، التي تزامنت مع الانهيار الاقتصادي والنقدي في لبنان، وحتى مع إعلان حالة الإفلاس يوم توقفت الحكومة اللبنانية عن تسديد سندات اليوروبوند.

في إفادته أمام المدعي العام نفى رياض سلامة المعلومات بأنه حوّل 400 مليون دولار، لكنه أقر بأنه حوّل 240 مليون دولار على دفعات منذ عام 2002، بعدما أسس وشقيقه رجا شركة في سويسرا! وكان سلامة قبل أشهر قليلة قد نفى قيامه بأي تحويلات، كما نفى وجود أي حسابٍ مصرفي له في مصرف لبنان، ليعود ويؤكد في إفادته بأنه كحاكم لا يستطيع التعامل مع المصارف التجارية وأن القانون يجيز له فتح حسابٍ خاص في المصرف المركزي! بالطبع الأسئلة هنا تبدأ ولا تنتهي.

طبعاً الأسئلة كثيرة في بيروت لأن سلامة الذي دأب في الآونة الأخيرة على تلميع صورته بشكلٍ دوري، مباشرة أو عبر مجموعات إعلامية، كشف بالصوت والصورة أن ثروته عندما ترك مؤسسة «ميريل لينش» وتسلم حاكمية مصرف لبنان، كانت بحدود 23 مليون دولار بين ملكية عقارية وأموال نقدية، وأن هذه الثروة في الخارج وهناك من يشغلها وهو لا يتدخل تلافياً لأي تضارب في المصالح! بالطبع لجأ سلامة، كما كل رموز الطبقة السياسية، إلى حث اللبنانيين العاملين في الخارج والمغتربين على نقل جنى أعمارهم إلى المصارف اللبنانية مقابل إغراءات الفوائد المرتفعة، في الوقت الذي لم يظهر هو شخصياً أي ثقة بمستقبل النظام المصرفي المسؤول هو عنه، والدليل كما يتردد أن أمواله كانت خارج لبنان.
ويذكر أنه بالتزامن مع بدء القضاء السويسري تحقيقاته، تم التحفظ على أموال سلامة وشقيقه ومساعدته لمنع سحب هذه الأموال، والحديث يدور كذلك عن تجميد احترازي لحسابات تعود إلى 10 أسماء هم من السياسيين والمصرفيين اللبنانيين. لكن الطريف في الأمر اليوم بقاء سلامة في موقعه على رأس مصرف لبنان كأن شيئاً لم يكن، لا بل إن البعض في بيروت ما زال يعوّل على مساعدات مالية خارجية لانتشال البلد من الإفلاس، والأهم استعادة الثقة بالاقتصاد وخصوصاً القطاع المصرفي.

الأكيد أنهم عندما طرحوا قبل أشهر طويلة «التدقيق الجنائي» لم يكن بذهن أي من مكونات الطبقة السياسية الذهاب في الأمر حتى نهايته، والنتيجة أن «التدقيق الجنائي» كلام في كلام، والسبب كما يبدو للمراقبين هو أن الكل متورط. وجاءت مضبطة العقوبات الأميركية بحق الوزراء السابقين جبران باسيل وعلي حسن خليل ويوسف فنيانوس لتسلط الضوء على بعض مكامن النهب. وأن تصف صحيفة «لوموند» الفرنسية مصرف لبنان بأنه «الصندوق الأسود للنظام السياسي المتوحش»، فقد حولوا كل الوزارات والمؤسسات الكبرى إلى صناديق سوداء ونظموا فيما بينهم أخطر محاصصة، وغطوا استنزاف الواردات العامة نهباً مباشراً أو من خلال التهريب المحمي لكل السلع المدعومة لمد النظام السوري المتآكل ومحور الممانعة بعناصر بقاء على حساب اللبنانيين!

لا شك أن هذا المسار أقلق المنظومة السياسية، لأنه حمل تأكيداً جديداً لما ذهبت إليه ثورة تشرين عندما تمسكت بشعارها «كلن يعني كلن» شركاء في المنهبة وإذلال اللبنانيين، ويستحيل أي إصلاح أو انتشال البلد في ظلّ المنظومة المتحكمة، وأن «ألف باء» الإنقاذ يفترض حكومة مستقلة عن منظومة الحكم. أهمية هذا المسار اليوم أنه يرتب مسؤوليات جساماً على القضاء اللبناني الذي لم يتحرك قيد أنملة حيال احتجاز الكارتل المصرفي ودائع نحو مليون مودع لبناني. إنها لحظة – فرصة أمام مرأى القضاء اللبناني ومسمع قضاته، عندما يفتح القضاء السويسري ملف تحويلات بمئات ملايين الدولارات، أقدم عليها موظف حكومي فمن أين له ذلك وما مصدر هذه الأموال؟ هذا الخيط فرصة للبنان لأنه سيفتح الباب على مصراعيه! وهنا عند استرجاع ما ركز عليه الرئيس الفرنسي تظهر معالم النقلة النوعية في التعاطي الخارجي مع جل الطبقة السياسية باتجاه إدانتها بعدما حولت البلد «تايتنك» ولم يرف جفن لأحد منهم.

بيد القضاء اللبناني اليوم أن يعوض الكثير مما فات اللبنانيين، وأن يتقدم إلى ملاقاة ثورة تشرين إلى منتصف الطريق. في جريمة 4 أغسطس (آب) كما في المنهبة الكبرى تتلاحق المعطيات الصادمة، ووحده القضاء المؤيد من أكثرية الناس، قادر على الحسم والبت بما يسهل الانتقال السياسي.