ـ الفنون الجماعيّة فنون حَضَريّة، بينما تظل الفنون والآداب الفرديّة بدائيّة!. هذا توصيف لا تصنيف!.
ـ هي كذلك بكل ما لكلمة حَضَريّة من تَكَلُّف وتَصنّع وانتحال، وتطوّر!، وبكل ما لكلمة بدائيّة من ضراوة ووحشيّة وبساطة وانعتاق!. وبكل ما يلزم للتحضّر من قوانين، وما يحكم البدائيّة من أعراف!.
ـ الموسيقى، وحدها، يمكن لها أن تكون جماعيّة كما يمكن لها أن تكون فرديّة متى ما أرادت!. بما في ذلك ابنها الذي هو أبوها: الغناء!، وابنتها التي هي أمّها: الرّقص!. وأعتذر للغة العربيّة عن أي تجاوز!.
ـ المسرح، على قِدِمِه، فن جماعي، وكذلك السينما، ومعهما وبينهما ألعاب السيرك ومسرح العرائس، وإن شئت: الإعلام!. وإن شئت: كرة القدم!
ـ العمل الجماعي يتطلّب مواصفات خاصّة تنفع العموم!. من هذه المواصفات التهذيب واللطف وقبول الآخر، والالتزام التام بالحدود والأدوار، والتقيّد بالقوانين تحت إمْرَة قيادة واضحة!. قد لا يكون لهذه القيادة أي دور سوى القيادة نفسها!. القيادة بما تتضمنه من الصّرف والانتقاء والتعيين والإدارة والتوجيه والمراقبة والحُكْم!. ما يعني إمكانيّة وجود أكثر من قائد كلّ في مجاله، لكن في النهاية هناك شخص واحد على رأس الجميع، يقول لا أو نعم!.
ـ هناك دون شك مجال كبير للإبداع الفردي داخل العمل الجماعي، لكن لو تُرك الأمر لممثّلي المسرح والسينما، مثلًا، يتصرفون على هواهم ويقول كل منهم ما يشاء، متجاوزًا حدوده، لما أمكن تقديم عمل مسرحي واحد، أو فيلم سينمائي واحد، جيّد ويحمل معنى!. وكذلك الأمر بالنسبة للموسيقى الجماعيّة والرقص الجماعي والأغنية المصحوبة بموسيقى ومُردِّدِين!.
ـ في الصحافة الورقيّة، مثلًا، هناك “تبويب” لا يمكن تجاوزه، في غير حالات خاصة ونادرة، مؤقّتة، لولا ذلك لما ظهرت مطبوعة في موعدها، ولما عُرِفت ماهيّتها، ويصعب تخيّل أحقيتها بالاحترام!.
ـ في كرة القدم: بعد خلاف بنزيما وفينيسيوس الشهير، كانت أول تمريرة من فينيسيوس لبنزيما، تمريرة لم تستثمر رغم جودتها!. جودتها هنا محمّلة بمعنى أكبر: في اللعب، قد تكون على خلاف مع لاعب آخر في نفس الفريق، لكنك أبدًا لست على خلاف مع القميص ولا الرقم الذي يرتديه زميلك!. أنت لا تُمرّر للشخص، وإنّما للقميص والرقم!. هكذا يجب أن تجري الأمور. ليس فقط في كرة القدم، لكن في أي عمل جماعي!.
ـ الفن الجماعي لا يجمح إلا إذا كان مروّضًا على أتمّ وجه وصورة!. فهو عمل حَضَري لا تقوم المدنيّة إلا بقوانينه غير الخاضعة للعواطف والأحاسيس والمشاعر إلا بقدر معقول ومقادير بسيطة واضحة محدّدة، تمنح كل فرد دوره وتمنعه من الاستيلاء على أدوار الآخرين!. لا يمكن السير في شوارع العمل “والفن” الجماعي دون إشارات مرور!.
ـ الفن الفردي، كالشعر والرسم والرواية، أعمال بدائيّة، لمبدعيها طبيعة الغابة أو الصحراء!. غامضة وضارية!. ولا تخضع لقوانين ثابتة، حَدّها قبول بعض الأعراف والتقاليد على مضض!.
ـ هل تعرف روائيًّا واحدًا، روائيًّا حقيقيًّا، أُعجِب بفيلم مأخوذ عن رواية له؟! أنا شخصيًّا لا أعرف. دع عنك الذين يكتبون روايات وفي ذهنهم، وكل مطمعهم، تحويلها إلى فيلم سينمائي!. الأكيد أن نجيب محفوظ لم يقبل أن يكتب سيناريو واحدًا لفيلم مأخوذ من رواية له!. رغم أنه كتب عشرات السيناريوهات لروايات أقل قيمة من رواياته، ورغم أن معظم رواياته صارت أفلامًا سينمائيّة، كتب سيناريوهاتها عدد ممن هم أقل منه قيمة في كتابة السيناريو نفسه!.
ـ الفنون والآداب الفرديّة، تُشعر أصحابها وكأنهم سلاطين!. وحتى لو كانت هذه النشوة وهميّة، فإنها تمدّهم بما يكفي من طاقة وسعادة!. بينما هناك جزء “موظّف” أو “أجير” في كل فنّ جماعي!. هذا الجزء يُشعر الفنّان الجماعي برقيّة وقدرته على التفاعل مع الحياة وإعادة إنتاجها بما يمتع ويؤثّر ويفيد، وفي شعوره هذا الكثير من الحقيقة، فتأثير الفنون الجماعيّة أكبر وأوضح، وقدرتها على الأخذ بيد مجتمعاتها أسرع وأنجع!.
ـ لذلك، ربما، تجد أن الفنّان الجماعي أكثر رحابةً، وتقبّلًا، لرأي الجمهور والنّقاد في عمله، بينما يبدو الفنّان الفردي، أكثر عنفًا وغِلظةً وجلافةً، كلّما اقترب أحد من عمله برأي يهدّد سلطانه وسلطنته!.