الطغيان ثلاثة أنواع رئيسة: سياسي واجتماعي وديني، فباسم الأمن والاستقرار والحفاظ على الوطن وحمايته من أعداء الخارج وعملائهم بالداخل، يتم القمع والبطش والطغيان على أيدي السلطات السياسية، فلا "صوت يعلو فوق صوت المعركة"، والمعركة هنا يمكن أن تكون ضد المخربين ومثيري الفتن والقلاقل أو الإرهاب أو الصهيونية والإمبريالية والاستعمار ومن أجل تحرير فلسطين.

لا يوجد نظام حاكم طاغ في العالم يقمع شعبه ويقول إنه يريد السلطة والتمسك بها أبداً، ولا يسوّق أي طاغية أنه يبطش بالناس لأنه مريض بمرض السلطة والسطوة، كلهم يسوقون المبررات بلغة وشعارات مختلفة، وقد تشرّع القوانين، وتنشأ المحاكم، وتعقد المحاكمات ليظهر القمع ويمارس الطغيان جهاراً نهاراً وبموجب القوانين والدساتير التي يصوغها الطغاة بأنفسهم.

أما القمع والطغيان الاجتماعي فهو نوعان:

النوع الأول، هو الفردي الموروث الذي نمارسه كبشر، وإن بدرجات متفاوتة من الطغيان، فالأب الذي لا يستمع لأبنائه، ويفرض رأيه عليهم من دون أخذ وعطاء، ولو بمبدأ "لكم حرية الحوار، ولنا دكتاتورية القرار"، هو فقط "اللي كلمته ماشية" من دون نقاش، والأخ الذي يريد فرض مفهومه الاجتماعي الذي ورثه للشرف والعفة على أخته، وإن كانت أكبر منه سناً وأعلى علماً، فقد قرر المجتمع أن ذكورته تكفيه ليمارس دور الوصي على أخته لأنها أنثى، والزوج الذي يريد "قطع رأس القطة من أول ليلة"، ويمارس العنف اللفظي والبدني ضد زوجته، أو العكس، فالزوجة، وهو الأمر الأقل نسبة، يمكن أن تمارس العنف اللفظي بل والبدني ضد زوجها، وهي الزوجة التي يسميها أهل الخليج "النسرة".

والنوع الثاني، هو الطغيان الاجتماعي الجماعي، وهو القمع الاجتماعي للحريات الشخصية التي لا تتعدى على حريات الآخرين، فتجد المواجهة الجمعية تأخذ أشكالاً متعددة من الغيبة إلى الاعتداء اللفظي والتنمر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل وحتى التهديد المباشر وربما الاعتداء البدني على شخص ما بسبب ملبسه أو شعره أو تصرفه الفردي بمكان عام وجد فيه العامة خروجاً على "الذوق العام"، كل ذلك يتم بحجة الحفاظ على "العادات والتقاليد".

يقرر الطغيان الاجتماعي أن يحدد لك العيب والخنا، والزين والشين، والصح والخطأ، والأصول والعادات والتقاليد، وما عليك سوى الانصياع والاستسلام، والخضوع والصوم عن الكلام، الغريب أن كثيرين من أهل هذا الفريق لا يؤمنون بما يأمرون، ولكنهم ما وجدوا "آباءهم عليه" من دون تفكير أو تدبر أو تدبير! إنه النفاق والجبن والخنوع مع نبرة مريضة من المزايدة الممجوجة.

والنوع الثالث من الطغيان هو الطغيان الديني، فباسم الدين والمحافظة عليه من الزلل والخلل، وباسم الرب وتعاليمه وأنبيائه وسننهم ونهجهم، سوف تواجه القمع الديني دفاعاً عن حياض الدين ممن جنّد نفسه "لوجه الله تعالى" للذود عن العقيدة والإيمان، وعن "بيضة صحيح الدين"، وهذا النوع من الطغيان له ميزة خاصة تختلف عن سابقيه وهو أنه يبرر كل موقف وقول وسلوك وبطش وقمع باسم الدين، وبأن ممارسته تأتي وفقاً لتعاليم ربانية فرضها الله على ممارسيها، وبأن ما يقوم به من تنافخ وتنافخ هو أمر مفروض عليه، فهو في حالة جهاد سرمدي ومهمة إلهية أوكله الله بأدائها وتنفيذها، هكذا هو الطغيان الديني، مهموم صاحبه ومشغول بسلوك الآخرين وتعديل مسارهم ليضمن لهم الجنة، رغماً عن أنوفهم.

يعيش الناس جميعاً على هذه الأرض وهم يواجهون، وإن بدرجات متفاوتة، هذه الأنواع الثلاثة من الطغيان، أقول درجات متفاوتة لأن كثيراً من المجتمعات المتقدمة واجهت الطغيان، واستطاعت أن تحدّ منه، بدرجات متفاوتة أيضاً، لأنه لا يمكن لكائن كان أن يقول إن دولة ما على هذا الكوكب قد تخلصت تماماً من كل أشكال الطغيان السياسي والاجتماعي والديني، فالحرية السياسية واسعة الحدود بالدول المتقدمة وكذلك الحريات الاجتماعية والدينية، حتى أكثر الدول تقدماً وديمقراطية لا تزال تشهد مظاهر هنا أو هناك من مظاهر الطغيان بأنواعه، لكن تقدمها في معارك الطغيان يقاس بدرجة الحرية بالتصدي العلني له، وبالضمانات التي تقدمها قوانينها ومؤسساتها لحرية التصدي السلمي للطغيان السياسي والاجتماعي والديني، وهو ما نفتقر له تماماً في عالمنا العربي العنيد.

يتضامن الطغاة الثلاثة في ما بينهم منذ الأزل، فطاغية السياسة يحتاج لعمامة رجل الدين على يمين صولجانه، ورجل الدين يستحث الطغيان الاجتماعي باسم المحافظة على "دينكم وعاداتكم وتقاليدكم"، وحماية لكم من "الأفكار الدخيلة"، وطغاة التخلف الاجتماعي تساند الطاغية السياسي الذي يحافظ على بلادنا من الفتن والبدع والتمرد على الموروث، وترى في رجل الدين حليفاً لا فكاك من التحالف معه، وهكذا.

تحالف الطغيان مستمر ومتماسك وقوي، بينما طبيعة الحرية والأحرار تستنكف الانقياد للجموع خوفاً من العودة لربقة الطغيان.

فأي أنواع الطغيان تراه الأخطر عليك؟