ـ عندما تريد كتابة موضوع، لا تحكيه مشافهةً لأحد قبل الانتهاء من كتابته!. حتى مع نفسك، لا تحاول إطالة الحديث الداخليّ الخاص!.
ـ أمّا سرده شفاهةً على مسامع إنسان آخر، أو مجموعة أصدقاء، ففي ذلك تفريغ لشحنات، وتخلّص من توتّرات، ليس من الفطنة تفريغها والتخلّص منها!. هي تمدّ الفعل الكتابي بطاقة لازمة وبحماس محفّز!.
ـ وأما إطالة تفكيرك فيه قبل البدء في كتابته، فقد يشطح بك إلى تفريعات غير ضروريّة، أو يقلّل كثيرًا من متعة التجربة الكتابية بما في عوالمها من اكتشافات مفاجئة يمكن لفعل الكتابة نفسه، عبر الانزياح أو الاسترسال، تقديمها مكافأةً لك على التعاملات الفطنة، وربما الشاعريّة، مع اللغة عبر الكتابة!.
ـ للكتابة أدوات غير أدوات المشافهة. كثير من عظماء الحكّائين مشافهةً، والذين لا تُمَلّ صحبتهم ومجالستهم، يكتبون، حين يكتبون، فلا تجد من ملاحتهم ولا من ظُرفهم ولا من نباهتهم شيئًا!.
ـ والعكس صحيح!. كثير من الأدباء، ومن البارعين في الكتابة، والذين تجد في كتابتهم رشاقة وخفّة ظل، تضيق بهم حين تُجالسهم، وتتعجّب كيف أمكن لهم، عبر كتاباتهم، البريق وحلاوة الاسترسال ونباهة الوقوف والانطلاق والتغيير والتنوّع والاختصار وحسن التّنقّل وملاحة الجملة واستيفاء الفكرة؟!.
ـ الكتابة فعل آخر، وفاعليّة مختلفة، ولهذا الفعل وتلك الفاعليّة موهبة وأدوات ومهارات مغايرة!. لا يمكن لك معرفة مدى موهبتك، وحرفيّتك فيها، إلا من خلال الكتابة ذاتها!.
ـ وأنت تلاحظ، ربما مرّت بك، أو سمعت بالتأكيد عن عدد كبير من الناس يقول، ويُقسم بأغلظ الأيمان، وهو صادق، أن هذه الفكرة دارت في رأسه، وأنّ هذا المعنى كان في بالِهِ، لكنه لم يعرف صياغة له مثلما قرأها عند كاتب مُعيَّن!. يحدث ذلك، أكثر ما يحدث، في الشعر!. ولذلك صُعِّدت إلى شهرة كبيرة مقولة: “المعاني مُلقاة على قارعة الطُّرُق”!. وليس أدلّ على شهرة شيء أكثر من الخطأ في فهمه!.
ـ في المشافهة، وعلينا وضع هذا في الحسبان: عدد كبير، من الكلمات هي في حقيقتها بلا معنى!، ومع ذلك يمكن للحكاية أن تمرّ بلطف، وقد لا تفقد سوى مقدار ضئيل من ملاحتها!. الكتابة عكس ذلك تمامًا، يمكن لكلمتين زائدتين عن الحدّ، لثلاث كلمات مجّانيّة بلا معنى، لأكثر قليلًا:.. هدم الكيان بأكمله!.
ـ لكل جارحةٍ جوارح!. لكل جارحةٍ: عين، وأُذُن، وأنف، وكفّ تلمس، ولسان!. للمشافهة جوارحها، وللكتابة جوارحها!. يتحدث الإنسان مشافهةً، ولو مع نفسه، فيرى الكلمات ويسمعها ويشمّ رائحتها بطريقة مختلفة تمامًا، وبأحاسيس مغايرة، عمّا يمكن له سماع نبضها وشمّ عطرها، والأهم والأوضح: رؤيتها، وملامسة جسدها، حين يكتبها!.
ـ يمكنك أن تحكي مع نفسك، وأن تحادثها، في قصّة حب، تتخيّل الكلمات التي تقولها للمحبوب، يعجبك قولك ويطيب لك تصرّفك وترى ابتسامة القبول على الشفاه، وظِلّ رعشة الحياء السعيد في العيون، فتنتشي طربًا!. لكنك حين تلتقي المحبوب حقًّا، يضيع نصف الكلام، ونصفه الثاني يحضر أخفتُ بريقًا، وأضيع ترتيبًا، وأقلّ أثرًا!، وفي الغالب تتورّط بحاجتك للتعامل مع مستجدّات لم تكن في ذهنك حين كنت تتخيّل الموقف والحوار!. ربّما لم تحسب حساب أن فنجان القهوة الذي لم يطب مذاقه للمحبوب، سيأخذ الحديث بعيدًا، ويغيّر مجراه تمامًا، ويصير هو الحدث الأهم في اللقاء!.
ـ حديثك مع نفسك، كان مع مُتَخيَّل، لا جسد له “فيزيائيًّا”!. المشافهة الداخليّة، بدتْ لك مرنة وقويّة ومُنتَصِرَة، لأنها لا تواجه أحدًا!. لكنك حين تكتب، فإنّ الكلمة تتجسّد!. يصير لها وجود، شكلًا ووزنًا، وزمنًا حقيقيًّا!، وتحتل من المكان، شاشةً كان أم ورقةً، مساحةً ما!. وعليك التعامل مع كل ذلك، تعاملًا يشبه ما يجب عليك حين التقيتَ المحبوب متجسّدًا، حقيقيًّا وواقعيًّا!.
ـ الكلمة المكتوبة، مهما اتصلت بكاتبها، فإنها مفصولة معزولة عنه!. لها حضور متجسّد حقيقي خارجه!. ولها ديمومة ليست مرتبطة بزمنه!. ولهذا الحضور الخاص ولهذه الديمومة الخاصة بالكلمة المكتوبة، شروط حياة ونموّ، تخصّها!. لها موت يخصّها أيضًا!. الكلمات الزائدة جُثَث. لا يُمكن إخفاء الرّائحة!.