يتبين مع بدء العام التاسع من التدخل العسكري الفرنسي في مالي، أن حصاده متباين لجهة النجاح الأولي في منع تغيير الوضع في باماكو، والفشل اللاحق في منع التمركز والتمدد الجهادي في الإقليم. وعلى ضوء الزيادة الأخيرة في الأعمال الإرهابية والمتمردة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، تتأكد المخاوف من مأزق يرتسم في منطقة الساحل التي ينخرط فيها حوالي 5000 جندي فرنسي. وتواجه دائرة صنع القرار في باريس معضلة في الخيار بين إجلاء القوات الفرنسية أو زيادة القوات هناك. ولذا تحاول فرنسا تكييف موقفها مع تطور الوضع المتعثر في مالي والغليان الجهادي في منطقة الساحل الذي تخشى باريس أن يكون المنطلق نحو بلدان مثل ساحل العاج وبينين وباقي دول خليج غينيا.

وفي بادرة غير مسبوقة للتحذير من مخاطر التمدد الإرهابي في القارة السمراء، كشف برنار إيمييه رئيس المخابرات الخارجية الفرنسية (المديرية العامة للأمن الخارجي DGSE)، في الأول من فبراير، عن فيديو مسجل من قبل مصدر بشري عن اجتماع استراتيجي حصل في فبراير 2020 بين الزعيم التاريخي للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي عبد المالك دروكدال – الذي قتل في يونيو الماضي على يد القوات الفرنسية في شمال مالي – ورئيس جماعة نصرة الإسلام والمسلمين إياد أغ غالي وأحد مساعديه المقربين أمادو كوفا رئيس كتيبة “ماسينا”.

وبالرغم من وجود تنظيم داعش، لوحظ التركيز الفرنسي على منظمة القاعدة نظرا لنهجها الأيديولوجي المتماسك واعتبار إياد أغ غالي (من الطوارق) مجسدا حاليا لاستراتيجية القاعدة في الساحل. وحسب الأوساط العسكرية الفرنسية يتمركز الإرهاب الدولي الآن في بؤرتين أساسيتين حيث إن وضع الساحل والمنطقة العراقية – السورية على نفس المستوى. وزيادة على ذلك يعتبر انتشار الإرهاب أو الوضع المتدهور في شرق أفريقيا واليمن وليبيا من العوامل التي تمس أوروبا.

مع سقوط 51 جنديا فرنسيا منذ بدء التدخل في مالي يتساءل الرأي العام الفرنسي عن الأهداف ويخشى تكرار سيناريوهات مماثلة لما جرى مع الآخرين من أفغانستان إلى العراق

شهدت منطقة الساحل والصحراء تصاعدا في وتيرة نشاط الجماعات الإرهابية. في عام 2020، وجه الجيش الفرنسي ضربات موجعة للجماعات الجهادية. لكن وجود الجماعات المتمردة المحلية (حساسيات الطوارق أو الفولاني) والتكامل التنافسي بين القاعدة والدولة الإسلامية (داعش) يعقد الموقف حيث أدى التوسع في الفروع التابعة للدولة الإسلامية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى تصاعد الإرهاب في العديد من البلدان في المنطقة، إذ يشير تقرير مؤشر الإرهاب العالمي (نُشر في نوفمبر 2020). إلى أن سبعة من البلدان العشرة التي شهدت أكبر زيادة في الإرهاب تقع في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى: بوركينا فاسو، موزمبيق، جمهورية الكونغو الديمقراطية، مالي، النيجر، الكاميرون وإثيوبيا.

مع سقوط 51 جنديا منذ بدء التدخل في مالي الذي لا يزال ثلثا أراضيه خارج سيطرة السلطة المركزية، يتساءل الرأي العام الفرنسي عن الأهداف ويخشى تكرار سيناريوهات مماثلة لما جرى مع الآخرين من أفغانستان إلى العراق. في مواجهة الجهاديين والمتمردين، لم يتمكن التفوق التكتيكي الفرنسي من ضمان الاستقرار الدائم. لهذا فإن الحل السياسي يبقى هو المخرج لأن فرنسا أخذت تستنتج أنها لوحدها في المواجهة حيث تبدو قوات مالي وأعضاء مجموعة الساحل (موريتانيا، تشاد، مالي، النيجر وبوركينا فاسو) غير قادرة على الدفاع عن نفسها. بالإضافة إلى ذلك تعتبر المساعدات الأوروبية محدودة وواهية، ولا يبدو الرهان الفرنسي على دول الساحل واقعيا بسبب العجز الهيكلي لبلدان الساحل. وبعد الانقلاب العسكري في مالي في صيف 2020، لاحظ المراقبون أن فرنسا أخذت تفكر بطريقة مشرفة للخروج من المأزق، ومن الاحتمالات التفاوض مع المتمردين باستثناء القاعدة أو الدولة الإسلامية.

بيد أن تطور أشكال التهديد الإرهابي يدفع صانع القرار الفرنسي للتريث تبعا لتطور التهديد الإرهابي على خلفية أنماط العمل الجهادية المتغيرة، إذ ترصد الأوساط المعنية شكلا من أشكال التحول في الإرهاب، مشيرة إلى “رفع مستوى” الجماعات الإرهابية في “ساحات القتال غير الملموسة” (الحرب الإلكترونية والمعلوماتية على وجه الخصوص) إزاء احتمالات التمدد الجهادي في أفريقيا ومخاطر استهدافه أوروبا انطلاقا من هذا المسرح، تجد فرنسا نفسها في الساحل في مواجهة الوضع الأمني ​​المقلق في منطقة قوضها العنف الجهادي وحركات التمرد والصراعات بين المجتمعات المحلية وعدم الاستقرار السياسي. لذلك بالرغم من الأثمان والمتاعب لا تزال فرنسا تعتبر وجودها ضروريا في الساحل، وتأمل مع تمركز إدارة بايدن في المزيد من الدعم اللوجيستي الأميركي والإسهام الأوروبي للعمل المشترك ضد نمو الإرهاب في البؤرة الأفريقية.