أشهر 3 مرشحين للرئاسة في لبنان، ولم يبلغوها، كانوا ريمون إده ونسيب لحود وجان عبيد. وتميزت سيرة الفقيد الثالث بعلاقاته العربية ومعارفه الإسلامية والدور الدبلوماسي الذي لعبه في القضايا العربية وزيراً للخارجية، وشخصية اعتبارية ذات صداقات رفيعة من مصر إلى السعودية إلى سوريا إلى الكويت إلى العراق.

في أحد مؤتمرات وزراء الخارجية في الجامعة العربية، تحدث جان عبيد، فوقف الأمير سعود الفيصل معلقاً: «إنك خليق بأن تكون وزير خارجية العرب جميعاً». وكما كان القبطي مكرم عبيد في مصر يدهش المسلمين في حفظه القرآن الكريم ومعرفته بالسنة، كان جان عبيد، الماروني اللبناني، يُدهش كما لو أنه مقرئ من دون تجويد. ولم تكن علاقته بالإسلام والعروبة حفظ النصوص، بل حفظ الأفئدة، وحفظ النسب وعمق الانتساب.

ينتمي جان عبيد إلى الجيل الثاني في ساسة لبنان. كان أستاذه فؤاد شهاب، وصديقه تقي الدين الصلح، ورفاقه طلائع العمل العربي المجدّد والمنفتح، والذي كرس شبابه للقضية الفلسطينية. وفي سنوات الصحافة، عمل أيضاً في الدور ذات الانتماء العروبي، وآخرها رئاسة تحرير «الصياد» في أيام سعيد فريحة.

ترك الصحافة إلى السياسة والنيابة والوزارة، استعداداً للسباق الرئاسي. وكان كلما اقترب من عتبة القصر، حدث تغير ما. أما هو فكان يقول إنها إرادة الله، ولا شيء فوق مشيئته.

كانت العادات والتقاليد في لبنان أن يلتقي الأصدقاء في منازل بعضهم البعض. وقد زال هذا التقليد تقريباً. والمنزل الوحيد الذي كنتُ أدخل إليه في السنوات الأخيرة، كان منزل جان عبيد. وكانت مأدبة الأحد في بيته من فروض المودات؛ حيث يتحول البيت إلى مهرجان من الأحفاد والأبناء والأصدقاء ورفاق العمر.

من زمن لم أشعر بمثل هذا الحزن. وما كان عليه جان عبيد من مناقب ومؤهلات أمر يعني لبنان، أما أنا فأفقد فيه خلاً لماحاً ذكياً وطيباً وفطنة الظُرف الذي بدأ يجف وينقرض في لبنان لتحل محله دعابات حديثي النعمة وجائعي الوجاهة.

كنا ما نزال نأمل أن يصل جان عبيد إلى الرئاسة في المرة المقبلة. ونتخيل أن نشهد معه لبناناً هادئاً وكثير المصالحات، يعمل بقوة الحجة، لا الذريعة. ويعرف كيف يحفظ كرامات الناس حتى الذين لا يعرفون، أو يهمهم أن يعرفوا كيف يحفظون كرامتهم. لكن هو بين أكثر من تعلمنا منهم التسليم بمشيئة الله وأقساط القدر. وقد كان قسطه من الحياة مضيئاً.