تمثل إمكانات الإنسان الذاتية الوسائل المتاحة لديه للتواصل مع الآخرين، والتعلم واكتساب الخبرة، والتعامل مع الطبيعة التي خلقها الله تعالى من حوله، والاستفادة من كل ذلك في توجيه شؤون حياته نحو توفير متطلباته، وأداء واجباته، والسعي إلى حياة أفضل. وقد استطاع الإنسان عبر الزمن، وتراكم المعرفة لديه، أن يضع مقاييس لتقييم مستوى إمكاناته، سواء العامة التي يتمتع بها الجميع بدرجات مختلفة، أو الخاصة التي تختلف تبعا للهواية والموهبة والدراسة والممارسة والخبرة. ولعل من أهم المقاييس العامة المستخدمة لتقييم إمكانات الإنسان ما يعرف بمقياس معدل الذكاء IQ، ومقياس معدل ذكاء المشاعر أو الذكاء العاطفي EQ.
يهتم مقياس معدل الذكاء الذي وضعه الأكاديميان ألفرد بينت Alfred Binet وثيودور سيمون Theodore Simon في مطلع القرن الـ 20، بتقييم مستوى إمكانات الإنسان الذهنية ونشاطاته الإدراكية، ويحرص على أن يكون ذلك على مستوى عام غير مقيد بتخصص وحيد أو موهبة محددة. ويعتمد المقياس في شكله المتطور الحالي على اختبار مستوى هذه الإمكانات والنشاطات من خلال أربعة محاور رئيسة. وتشمل هذه المحاور: محور المنطق Logic، الذي يهتم بمستوى القدرة على تحليل الأسباب في شؤون الحياة المختلفة، والمقارنة بينها، واستخلاص النتائج، ومحور الكلمات Verbal الذي يركز على مستوى القدرة على الفهم والتعبير، ومحور الأرقام Numeric المعني بمستوى القدرة على إجراء العمليات الحسابية ذهنيا، ثم محور التصور الفراغي Spatial الخاص بمستوى القدرة على حل المشكلات المرتبطة بتصورات فراغية معقدة.
وننتقل إلى مقياس معدل الذكاء العاطفي الذي يهتم بتقييم مستوى الإنسان في خصائص تعزز سلوكه تجاه ذاته والآخرين. ولهذا الذكاء تعريف محدد وضعه الأكاديميان بيتر سالوفي Peter Salovey، الذي أصبح الآن رئيسا لجامعة ييل Yale الشهيرة، وزميله جون مايور John Mayer، وذلك في ورقة علمية نشرت عام 1990. ويقول هذا التعريف إن هذا الذكاء يتمثل في قدرة الإنسان على ملاحظة عواطفه الذاتية، ومراقبة عواطف الآخرين من حوله، واستيعاب خصائص هذه العواطف والتمييز فيما بينها، ثم استخدام المعرفة الناتجة عن ذلك في توجيه تفكيره وتحديد سلوكه. على هذا الأساس، يمكن القول إن معدل الذكاء يهتم بتقييم إمكانات الإنسان الذهنية، أما معدل الذكاء العاطفي فيركز على تقييم إمكاناته السلوكية. ولا شك أن جميع الناس يتمتعون بإمكانات في كل منهما، ولكن بدرجات متفاوتة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ما يقصد بالإمكانات السلوكية، في إطار معدل الذكاء العاطفي، لا يتضمن جانب أخلاقيات الصدق والأمانة التي يحتاج إليها الإنسان في كل زمان ومكان.
يطل في إطار ما سبق تساؤل يقول، هل يحظى صاحب معدل الذكاء المرتفع بمعدل ذكاء عاطفي مرتفع أيضا، أم أن الأمر ليس كذلك؟. كما يبرز تساؤل آخر يقول، هل نستطيع أن نتوقع ممن يحظى بمستوى مرتفع في أي من الذكاءين، أو في كليهما، أن يكون متفوقا دراسيا أيضا، أم أن الأمر مختلف عن ذلك؟. تم طرح هذين التساؤلين في دراسة أجراها ثلاثة أكاديميين، في المجال الطبي، على عينة من المتدربين من الذكور والإناث في المجال ذاته، بلغ متوسط أعمارهم 24 عاما. وتم نشر الدراسة في مجلة طبية عام 2015، ولم تكتف الدراسة بالإجابة عن هذين التساؤلين فقط، بل أعطت ملاحظات أخرى استخلصتها أثناء الدراسة. وسنطرح فيما يلي الملاحظات والنتائج التي قدمتها.
في إطار الاختلاف بين الإناث والذكور، لاحظت الدراسة بادئ ذي بدء أن الإناث تفوقن على الذكور في مستوى معدل الذكاء العاطفي، لكن الذكور تفوقوا على الإناث في مستوى معدل الذكاء، وذلك ضمن المجموعة التي خضعت للدراسة. كما بينت الدراسة أيضا أن الأداء الدراسي للإناث كان أفضل من الأداء الدراسي للذكور. وفي إطار التوافق بين الإناث والذكور، وعدم تفوق أي منهما على الآخر، أظهرت الدراسة أن ارتفاع أو انخفاض أي من الذكاءين لدى كل من الإناث والذكور لا يؤثر في أدائهم الدراسي، لا سلبا ولا إيجابا. أي إن هناك عوامل أخرى ترتبط بالمجال الدراسي مثل الشغف بالمعرفة والتحصيل والتقدم.
وفي تقييم مدى الترابط بين الذكاءين، أظهرت الدراسة أن هناك ترابطا سلبيا بين مستوى معدل الذكاء من جهة، ومستوى معدل الذكاء العاطفي من جهة أخرى، طبعا ضمن المجموعة التي خضعت للدراسة. أي إن صاحب المستوى المرتفع في معدل الذكاء، لا يتمتع غالبا بمستوى مماثل في معدل الذكاء العاطفي، كما أن صاحب المستوى المرتفع في معدل الذكاء العاطفي لا يحظى غالبا بمثل ذلك في مستوى معدل الذكاء. والخلاصة هنا أن التفوق الذهني لا يقترن بالتفوق السلوكي.
على أساس ما سبق، لعلنا نختم هذا المقال بملاحظتين رئيستين. ترى الملاحظة الأولى أن هذه الدراسة، وما قدمته، تستند إلى عينة من الناس، وتتمتع بموثوقية كاملة في إطار هذه العينة، وربما ما يماثلها أيضا، لكنها غير قابلة للتعميم على جميع الناس دون استثناء. وإذا أردنا أن نختبر ما اختبرته هذه الدراسة لقطاع محدد من الناس، علينا أن نقوم بما قامت به هذه الدراسة، ونحصل على نتائج جديدة قد تتفق أو تختلف جزئيا أو كليا مع النتائج التي توصلت هذه الدراسة إليها. ولعلنا نقول هنا، إن فائدة هذه الدراسة تكمن في أنها حددت مكامن قوة ومواطن ضعف لدى قطاع من الناس في إطار الإمكانات الذهنية والإمكانات السلوكية، كما بينت عدم تأثيرهما في التحصيل الدراسي. ويعطي هذا الأمر فهما لمشكلة يمكن التعامل معها في إطار الملاحظة الثانية التالية.
تقول الملاحظة الثانية إن في فهم أي مشكلة طريقا نحو التعامل معها وإيجاد الحلول المناسبة لها. فالإمكانات الذهنية المرتبطة بمقياس معدل الذكاء قابلة للتطوير عبر تعزيز جانب التفكير في مناهج التعليم ونشاطات التعلم مدى الحياة. وينطبق هذا الأمر أيضا على الإمكانات السلوكية، المرتبطة بمقياس معدل الذكاء العاطفي، فهي أيضا قابلة للتطوير أيضا عبر تعزيز جانب بناء الشخصية في تلك المناهج والنشاطات.