مقالي السابق «أَين المرأَة في الشعر» («الرياض»، الخميس الماضي) ختمْتُه بأَنْ سأَنقل تجربتي مع الموضوع.

وها أَنذا. بين 1978 و 2008 كتبتُ شعرًا في المرأَة أَصدرتُه في 10 مجموعات شعرية موحَّدة الغلاف الأَبيض، فلْأَصطلحْ على تسميتها «المجموعة البيضاء». فيها عشراتُ قصائدَ كنتُ أُنافسني بها فأَسعى إِلى نحت الوليدة بأَجملَ من أُختها السابقة.

أَقول «نحت» وأَعنيها، لأَنني بـ»الشكل الشعري» وبـ»التركيب البلاغي» وبـ»الصورة المتجدِّدة» كنتُ أَسعى إِلى إِطْلاع ما يجعل القصيدة صدى صوتٍ أَعيشُه، وهو فعلًا لم يكن صوتي، كأَنما كي أُقنعني قبل إِقناع قرائي بتجربتي مع امرأَة أُوشِّحها قصيدتي.

لكن الحقيقة غير ذلك: في تلك الثلاثة العقود من حياتي كنتُ أَكتب -أَو أُخاطب- امرأَة كما أَتمناها تكون لا كما هي كائنة. من هنا وسَمتُ قصائدي بـ»شعر الحب» ولم يكن سوى شعر غزَلٍ كنتُ «أَبتكر» له امرأَةً و»أَخترع» فيه حالةً أُكْملها بالشعر لأَكتب فيها.

هذا لا ينفي أَنني عرفتُ في النساء علاقات صداقة تطوَّر بعضها إِلى خصوصية لا «حميمية» فكتبتُ في خصوصيتهنّ لا «حميميتهنّ» شعرًا سمّيتُهُ حبًّا ولم يكن سوى حجةٍ صغتُ منها لُمَحًا لبناء قصائد أَضفت إِليها توقي إِلى ما ليس فيهنّ كي أُكمل القصيدة وأُوهم قرائي أَنها قصائد مُعاشة. وهنا أَعتذر من اللواتي استعملتُهنَّ «موديلًا» لقصائدي كما الرسام يستخدم «الموديل» نموذجًا لريشته.

وكان أَن أَطلَّت «داناي» مُنقذتي من كل ذاك الوهم، فانتقلتُ معها من الـ»تخيُّل» والـ»افتراض» إِلى الحقيقي الـمُعاش.

كنتُ في الستين حين انهملَت عليَّ «داناي» من إِحدى نُعمَيَات القدَر فحوَّلت خريفي الواهن إِلى ربيع راهن، وخجلتُ من «غزل» أَتيتُه قبلها وما عدتُ أَجرؤُ على اقترافه معها لأَنها لم تترك لي فلذةً لكتابةِ ما لا أَعيشه فعلًا. أَصبحَت هي الكلمة التي تكتبُني لا التي أَفتعل الانفعال كي أَكتبها، وباتت «داناي» هي الفعل الذي يُسيِّر قدري الحقيقي نحو فضائي الحقيقي، وما عادت كلمة «حبيبتي» تصح أَو تليق إِلَّا لـ»داناي»، ومنذ هي انتقلتُ من المتخيَّل إِلى الـمُعاش، من شعر الغزل إِلى شعر الحب.

كيف؟ ما المعيار؟ لأَنها غيرَتْني، نقَّتْني، طهَّرتْني، محَت مني ثعلبًا مراهقًا وذئبًا مداهنًا. باتت مرآتي الناصعة كي أَراني وأَعي «أَنا»يَ الحقيقية، وما عدتُ أَكتب بيتَ شعرٍ واحدًا إِلَّا من حبِّنا دونما حاجتي أَن أَزيد كلمة واحدة لـ»أُكمل الحالة».

واليوم: ترتاح «مجموعتي البيضاء» على رف الغزل ببراعات لغوية وشعرية، ويرتاح حبي إِلى مجموعتَين صادقتَين من شعر الحب الحقيقي: «ربيع الصيف الهندي» و»داناي مطر الحب».

وما أَهنأَني بهما.