الإعلام هو القوة الناعمة الضاربة التي باتت واحدة من أهم القوى والآليات التي يتم من خلالها تشكيل الصور الذهنية في عقول الجمهور، ومده بالحقائق والمعلومات التي من شأنها مساعدة الدولة ذاتها في توصيل رسالتها وحماية مواطنيها من تبعات الغزو الفكري، كما يعد أحد أسلحتها المعنوية في الرد على أعداء الأمة وكشف أكاذيبهم، ولهذا يعتبر إعلام كل دولة بمثابة حصنها القومي الذي يرقى لأن يعد أحد جوانب أمنها القومي ذي الأهمية البالغة.

ما يهمنا هنا هو مجرد إلقاء الضوء على الإعلام باعتباره صناعة، فالإعلام لم يعد مجالاً للهواة من راغبي التنفيث عن مشاعرهم، كما أنه ليس منبراً لكل من تخطر على باله فجأة خاطرة عابرة سطحية، فالإعلام غدا في عصرنا الآن صناعة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ وتداعيات، لها روادها ومؤسساتها الأكاديمية ووسائلها التقنية الخاصة، إضافة إلى كونها صناعة واسعة متشعبة تستهدف جمهوراً عريضاً يضم جميع الشرائح، وترتبط بصورة قوية بالتكنولوجيا المتقدمة التي تتخذ أشكالاً مختلفة ومتباينة بتفاوت وسيلة التواصل ذاتها، سواء كانت مسموعة أو مقروءة أو مرئية أو حتى واحدة من وسائل التواصل الاجتماعي المنتشرة.

لاشك لدينا أن الوصف الذي تم إطلاقه على الصحافة باعتبارها سلطة رابعة لم يأت من فراغ، فالإعلام في وقتنا الراهن هو سلطة مساءلة تعتد الكثير من الحكومات بها، وهو ما شاهدناه من خلال الكثير من الأحداث التي تنتشر عبر أرجاء المعمورة بسرعة البرق، وانطلاقاً من تلك المسؤولية الجسيمة الملقاة على كاهل المنظومة الإعلامية، والتي تكاد تماثل في أهميتها المنظومة التعليمية، كون الاثنتان تقومان بدور تنويري مفترض، وتملك كل منهما قدرة لا تضاهى على التأثير على جمهور واسع من المواطنين، يتحتم على كل إعلامي أن يفهم رسالته ويعي مسؤولياته ويقدر الدور المنوط به تنفيذه.

غير أنه من المؤسف أن يعتقد البعض أن الإعلام ليس أكثر من منصة تهدف لاكتساب الشهرة السريعة، وهذا البعض هو من يصح وصفهم بأنهم دخلاء على المجال الإعلامي، والذين ينتشرون من خلال عشرات المنصات عبر الشبكة العنكبوتية من المنتفعين الذين يسيئون لمهنة الإعلام ولا يقدمون للمواطن شيئاً مفيداً يذكر، فكل ما تسطره أقلامهم ليست أكثر من خواطر عامة صادفتهم خلال يومهم، لم يقوموا حتى ببذل جهد كافٍ لتشذيبها أو تنقيحها، ولم يشرعوا يوما ما في صقل معارفهم أو إثراء خبراتهم الثقافية من خلال القراءة أو المتابعة الجادة الحثيثة لأحدث الأخبار والتقارير عما يدور حولهم في العالم، فجل همهم ينحصر في قضاء بعض الوقت لتسطير ما تجود به ذاكرتهم وتجاربهم اليومية للبقاء أطول وقت ممكن تحت الأضواء.

من الملاحظ أن هذه الفئة تنشد دوماً العناوين الجذابة اللافتة الصاخبة، التي تشد القارئ وتجذب انتباهه، وما أن يتأهب القارئ لقراءة المقالة حتى يبلغ منه السخط والإحباط مبلغه، ويجد نفسه مصاباً بملل شديد وغير قادر على إكمال ما بدأ قرأته، كالزبد يذهب جفاء، فقد يهاجم أحدهم بعض المقالات أو الأفكار دون سند أو حجة، وقد يمدح البعض الآخر بدونها أيضاً، فكل ما يكتبه هو محض أفكار تتراءى له، ولعله إن لم يقم بكتابتها فسوف ينساها على الفور!.

من المهم الحفاظ على رونق المحتوى الإعلامي السليم دون عبث، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال القراءة المكثفة ومتابعة الأخبار من خلال جميع وكالات الأنباء؛ سواء كانت محلية أو إقليمية أو دولية، مع التوسع في قراءة التاريخ والتعمق في فهم التحليلات والنقد المصاحب له، مع امتلاك الملكة الفطرية في مزج الحدث الآني بجذوره التاريخية المشابهة ووقائعه الحالية المماثلة، وما سبق ذكره الآن ليس إلا أحد الجوانب المساهمة في تشكيل وصياغة المحتوى الإعلامي المناسب والملائم لعالم أشبه اليوم بقرية صغيرة، ولاشك أن التعرض لبقية الجوانب الأخرى من تلك الصناعة الحديثة ثرية الجوانب متعددة الأبعاد هو أمر يتجاوز هذه الأسطر المحدودة، غير أن كل ما يهمنا هنا هو إلقاء الضوء على أهمية التركيز على كيفية صناعة محتوى إعلامي راقٍ مدعم بالأدلة الموثقة، وتوضيح الأسس التي تشكل الفحوى الإعلامي الهادف للوصول للحقيقة بعيداً عن الباحثين عن أضواء الشهرة الرخيصة.