المرحلة المقبلة من الاتصالات بين الدول الغربية وإيران ستعيد إلى الأذهان الكثير مما كان يُقال ويُتداول مطلع العقد الماضي حتى خريف 2013 عندما أمكن لدول مجموعة 5+1 التوصل إلى اتفاق نووي أولي أو موقّت، ليصبح بعد نحو عامين «خطة العمل الشاملة المشتركة» المعروفة بـ«الاتفاق النووي»، وهو حالياً موضع جدل أميركي إيراني. وكانت الولايات المتحدة قد انسحبت من الاتفاق عام 2018 وأعاد رئيسها السابق دونالد ترامب فرض عقوبات على إيران، لكن إدارة خلفه الرئيس جو بايدن تريد العودة إلى الاتفاق على أساس فتحه والتفاوض على تعديله. وكانت إيران انتظرت من الدول الأخرى الموقّعة، خصوصاً بريطانيا وفرنسا وألمانيا، مبادرات لتعويضها خسائر العقوبات الأميركية، لكن الآلية التي طرحتها الدول الثلاث لم تفِ بتوقّعات طهران فراحت تخفّض التزاماتها بموجب الاتفاق.

هذه الإجراءات تطوّرت من استئناف تخصيب اليورانيوم وتخزينه بنسبٍ وكميات تفوق ما يسمح به الاتفاق، إلى تطوير أجهزة الطرد المركزي وزيادة عددها. ورغم أن بايدن قال مراراً إنه سيعيد أميركا إلى الاتفاق، استبقت طهران تثبيت انتخابه في الكونغرس برفع نسبة التخصيب إلى 20 في المئة، وما لبثت بعد تنصيبه أن أعلنت بدء إنتاج معدن اليورانيوم الذي اعتبرته الدول الأوروبية الثلاث أنه مؤشّر إلى توجّه نحو اقتناء سلاح نووي ولا مبرّر له لتشغيل مفاعلات ذات طابع مدني. هذه الخطوات وغيرها، بالإضافة إلى وقف العمل بالبروتوكول الإضافي الذي يجيز زيارات للمفتشين الدوليين للمنشآت النووية غير المصرّح بها، وفّرت لإيران أوراقاً إضافية يمكن أن تتخلّى عنها في أي مفاوضات تمهيدية للعودة إلى اتفاق 2015، لكن بشرط أن يتحقق هدفها الرئيسي: رفع العقوبات.

لفترة طويلة ستبقى مسألة العقوبات محور الجدل، أولا لأن إدارة بايدن لا تستطيع رفعها دفعة واحدة ومن دون مقابل أو قبل الشروع في التفاوض على تعديل الاتفاق النووي، وثانياً لأن طهران تشترط إلغاءها كلّها وتطالب بتعويض خسائرها، وإلا فإنها ستواصل رفضها المسبق أي تغيير في بنود الاتفاق. لذا كان السؤال طوال الأسابيع الماضية: من يخطو الخطوة الأولى على طريق العودة إلى الاتفاق، واشنطن المطالَبة بقرار في شأن العقوبات أم طهران المدعوة إلى وقف إجراءات التخفّف من الالتزامات؟ كان اللقاء الرباعي الذي دعا إليه وزير الخارجية الفرنسي فرصة لتكشف واشنطن خياراتها الأوليّة، وهي: قبول الوساطة الأوروبية مع إيران تمهيداً لإحياء الاتفاق النووي، وسحب طلب إدارة ترامب تجديد العقوبات الأممية على إيران، وتخفيف القيود على تنقّل الديبلوماسيين الإيرانيين.

بين القرار السياسي والمبادرة الرمزية، أعطت إدارة بايدن إشارة الانطلاق للعودة إلى الديبلوماسية. لم ترفض طهران العرض ولم تقبله، فهو يطبّق معادلة «الأقلّ مقابل الأقلّ» كما روّجت لها واشنطن، لكنها تريد تحسينه قبل قبوله، فهل يقدّم الجانب الأوروبي إليها عرضاً تجارياً عبر آلية «انستكس» التي تعذّر تفعيلها بسبب تهديد إدارة ترامب بفرض عقوبات عليها. هذه الآلية لا تعيد إيران إلى النظام المصرفي الدولي ولا تلغي القيود على صادراتها النفطية وغيرها، لكنها قد تصلح بداية لمسار معروف مسبقاً أنه سيكون طويلاً. فإذا استمرّت الوتيرة كما هي الآن سيصعب الشروع في مفاوضات جدّية وهادفة قبل نحو سنة، خصوصاً أن طهران مقبلة على تغييرات سياسية بعد انتخابات يونيو المقبل.