منذ سنواتٍ وثمة حملة منظمة ومتواصلة ضد بعض الدول العربية المعتدلة من قبل تحالف أيديولوجي بين اليسار الغربي وبين الأصولية الإسلاموية، بين اليسار الأوروبي بصيغته الأقرب إلى التقليدية واليسار الليبرالي الأميركي المتجدد، وهذا التحالف تعبّر عنه دولٌ تمثل الإسلام السياسي في المنطقة وبعض الدول؛ بمعنى أنه ليس تحالف تيارات عامة فحسب، بل هو تحالف تشارك فيه دول ومؤسسات سياسية وأحزاب ووسائل إعلام رائجة وكبيرة.
قاد هذا التحالف في السنوات الأخيرة حملاتٍ ضد دول الاعتدال العربي والسعودية تحديداً وبخاصة دورها الإقليمي في قيادة الدول العربية لرفض التدخلات الإقليمية في الشؤون الداخلية للدول العربية ومحاربة الأصولية والإرهاب، لا لأن هذه التيارات تدعم الإرهاب، بل لأنها تجد له المبررات وتقدم له الأعذار، وتستفيد منه في ضرب استقرار الدول العربية.
المثال يختصر السياق، فمنذ يومين تقريباً رفعت السرية عن تقرير استخباري رفع للكونجرس الأميركي يتعلق بجريمة مقتل المواطن السعودي جمال خاشقجي في تركيا، وهي جريمة أقام عليها هذا التحالف المعادي الدنيا ولم يقعدها، وسعى جهده لاتهام السعودية وحلفائها الكبار في المنطقة بكل المصائب، وبني على هذا الاتهام قراراتٍ عمليةٍ مؤثرة بمجرد وصول بعض المقتنعين به لمناصب مهمةٍ، ومن باب ربّ ضارةٍ نافعةٍ، فقد اتضح أن هذا التقرير خالٍ تماماً من أي معلومةٍ أو دليلٍ حتى وإن لم يكن دامغاً، وتبين أن بعض القرارات ضد بعض الدول العربية بنيت على ظنونٍ محضةٍ وتحريضٍ أيديولوجيٍ وإعلاميٍ ليس له أي أساس من الصحة.
أعلنت دولة الإمارات -كالعادة- وقوفها الكامل مع السعودية في رفض أي محاولة لانتهاك سيادتها، وفعلت مثل هذا معظم دول الخليج وغالب الدول العربية والإسلامية، وهو موقف يدافع عن الواقعية والعقلانية في السياسة بعيداً عن الشعارات الأيديولوجية الموجهة التي أفسدت وتفسد السياسة.
في السياسة تناقضات وهي إحدى أدوات السياسة، ولكن هذا الانجراف الغربي خلف الأيديولوجيا اليسارية المتحالفة مع الأصولية أصبح صارخاً بدرجة عالية والمثال أعلاه هو أوضح مثالٍ في هذا السياق، وللمقارنة فقط فيمكن استحضار اغتيال المثقف والناشط اللبناني لقمان سليم كآخر تجليات سلسلة مستمرةٍ منذ سنواتٍ طويلة لاغتيال السياسيين والمثقفين اللبنانيين من قبل طرفٍ واحدٍ معروفٍ متورطٍ في جرائم حرب في لبنان وسوريا ومسؤول عن تفجير مرفأ بيروت وتهريب الأسلحة الكيماوية المحظورة دولياً.
مثالٌ آخر، وهو ميليشيات «الحوثي» في اليمن التي ترتكب كل أنواع الجرائم بحق الشعب اليمني، وتختطف دولته وتنتزع إرادته، وتحكمه بالحديد والنار، والصور ومقاطع الفيديو القادمة من هناك تظهر مدى البشاعة والإجرام التي ترتكبها بحقه، ومع كل هذا فالموقف من هذه المليشيات موقف متراخٍ إلى أبعد الحدود، بل إن بعض القرارات المهمة تبدو وكأنها تقدم لها الحماية، هذا بحق الشعب اليمني، فكيف بجرائم الحرب التي تستخدمها ضد السعودية؟
عبث الميليشيات الشيعية وجماعات وتنظيمات الإرهاب السنية ملء سمع العالم وبصره، وأعداد القتلى والمصابين والمهجّرين بالملايين، والمسؤول عن هذا كله معروفٌ ومعلنٌ ولكن الأيديولوجيا تعمي وتصمّ.
تيار السلام الجديد في الشرق الأوسط هو أحد الخطوات التاريخية التي تساعد على تجاوز مثل هذه التناقضات في السياسة الدولية، وهو يضع تحالف الأصولية واليسار في الغرب أمام توازنات قوى جديد في المنطقة يحرج الأيديولوجيا والشعارات ويفرض الواقعية والمنطق على الجميع.
أخيراً، ففشل استهداف السعودية هو إشارة واضحة لدول الاعتدال العربي أنها بإصرارها على تحالفاتها القوية القائمة قادرة على خلق تغييرات حقيقية ومؤثرةٍ على المستويين الإقليمي والدولي.