في البلد مناحة تتعالى في وداع الباخرتين التركيتين “فاطمة غول” و”اورهان باي”، وسط تحذيرات تتكرر من ربع قرن تقريباً، بأن لبنان سيغرق في العتمة، رغم سلسلة هائلة من وعود الوزراء والمسؤولين مدى ثلاثين عاماً، بأنهم سيتمكنون من انجاز وعودهم المسخرة التي كان عنوانها دائماً #24/24 ، طبعاً لا داعي الى ايراد أسماء كل الذين تعاقبوا على هذه الوعود الهمايونية، فقد كان واضحاً منذ اكثر من ربع قرن ان شركة الكهرباء ستقوم وحدها بافلاس لبنان !

لا داعي الى البكاء الآن، ولا حتى الى التوقف لحظة عند كل ما قيل وسيقال عن ان البلد سيغرق في العتمة، فليس خافياً على الكثيرين، ان عملية التخويف من العتمة، ومن ان يفشل موسم الإصطياف من العتمة وموسم الشتاء والثلج من انقطاع التيار، كانت دائماً الحجة التي تستغبي اللبنانيين، لنهب مدخراتهم وسرقة أموالهم وأتعابهم لان الدولة المسخرة كانت دائماً، تلجأ، لا بل تفرض على المصرف المركزي ان يفتح الاعتمادات، ويدفع تكاليف التيار المسروق مليارات الى جيوب العصابة القابضة، وهذا امر قديم سبق قصة البواخر وكارادينيز والشركة الحلبية التي تشرقط توتراً عالياً، امام كل اعتراض او انتقاد.
اتحدث هنا عن الماضي عندما كان وزراء الوصاية الأولين يبدأون دائماً مع أواخر شهر آذار بإطلاق التحذيرات من ان موسم الإصطياف مهدد بالعتمة لأن الشركة مقصرة ومفلسة تقريباً، والخزينة لا تفتح الإعتمادات لبواخر الفيول، وكانت البواخر تنتظر في المياه الإقليمية قبالة الشواطيء اللبنانية، وبين أخذ وردٍ، كان يقال ان التأخير في تأمين فتح الاعتمادات، فرض رفع سعر الفيول بنسبة معينة هي ما كان يتم تقاسمه بين الشركات التي تشحن الفيول وبين المسؤولين الذين يقرعون طبول التخويف من العتمة وكساد المواسم!

اكثر من ذلك وفي زمن قضى ومضى كان المسؤولون يرسلون مثلاً كشافاً ليضع تقريراً عن حجم شحنة الفيول، التي يتم تفرغها في محطات التوليد، وكان يتم التلاعب بحجم الكمية فيقال مثلاً انها ستين الف طن بينما تكون أربعين وأقل، وكان ثمن الفرق يذهب الى الجيوب الفاسدة!
للتذكير عندما قصف إسرائيل محطات التحويل الكهربائية في 29 حزيران 1999، اتصل احد الوزراء بالرئيس رفيق الحريري وقال له ان المطلوب تأمين ستين مليون دولار لإصلاحها، وصادف أنني كنت عنده في قريطم، عندما تلقى بعد دقائق اتصالاً من جاك شيراك وابلغه ان فرنسا ستقدم المحولات هبة الى لبنان، وهي لا تكلف اكثر من 18مليون دولار.

وأورد هذه الواقعة للقول ان منهبة الكهرباء التي افلست لبنان قديمة وزادت قابلية وشراهة في الأعوام الأخيرة بعد بدعة مقدمي الخدمات وملتزمي الجبايات، وفضائح رفض التبرعات الكويتية خصوصاً، وعدم الالتفات الى عروض الشركات العالمية مثل سيمنز، كان من الطبيعي ان يقع اللبنانيون اسرى فاطمة غول، والمولدات وبعضها مملوك من زعماء وسياسيين، قيل انهم يرسلون شاحناتهم الى محطات الكهرباء وينهبون المازوت والفيول لمولداتهم، هذا في وقت كانت وزارة الاقتصاد تخوض بطولات وهمية حول معركة العدادات، والمولدات التي مع مغادرة البواخر التركية ليس لنا غيرها، فشركة الكهرباء المفلسة صارت فقاسة صيصان كما قيل، ومع دولار بعشرة آلاف ليرة واكثر، سيكون الكثيرون سعداء بقنديل الكاز يشعونها امام شموع السياسين الذين اعادونا الى العصر الحجري.