ثلاثة فصول دراسية مرت علينا، والعالم معنا، والدراسة تتم عن بعد بتوظيف تقنية التواصل عن بعد، ولو رجعنا لبداية الاعتماد الكلي على التطبيقات مع بداية كوفيد - 19، ورصدنا الممارسة لاكتشفنا الإيجابيات، والسلبيات التي وقع فيها كثير منا في البداية نظرا لعدم الألفة في هذه التطبيقات. هذه الخبرة غير الاختيارية أحدثت بلا شك انقلابا في المفاهيم على مستوى الأفراد، والمؤسسات، وأوجدت حراكا فكريا، وثقافيا من خلال هذه الوسائط لم يكن متحققا من قبل، وذلك لتوافر الوسائط، والتطبيقات، ولانكسار الحاجز النفسي الذي يعيق التعامل مع أي جديد في بداياته، هذا الحراك غير في مفهوم المدرسة، والبرنامج اليومي المعتاد عليه من مشوار من البيت للمدرسة، وطابور صباحي تلقى فيه الكلمات، والقصائد، وتمارس فيه التمارين الرياضية، ليدلف الجميع فيما بعد إلى فصولهم ليتلقوا المعلومة من المعلم، وهم في وضع منتظم في كثير من الأحيان.
على صعيد التعليم العالي لم يعد حضور المؤتمرات والندوات وورش العمل بالأمر العسير، كما كان في السابق، حيث الموافقات من المجالس، والنفقات، وأصبح العلم بالندوة والمؤتمر في ثانوي، وما على الراغب إلا التسجيل والدخول عبر رابط التطبيق لحضور وتقديم البحث، والدخول في مناقشات بشأن الموضوع، حتى إن الفرد بإمكانه المشاركة وحضور الندوة كل أسبوع لتنوع الجهات الراعية من جامعات وجمعيات مختصة.
مفهوم المدرسة في الوضع الراهن لم يعد ذلك المبنى ذا الأسوار الرفيعة المحدث للبهجة عند البعض، المثير للاشمئزاز، عند بعض الطلاب حسب الخبرات الفردية، البيت في الوقت الراهن تحول إلى مجموعة مدارس حسب المراحل الدراسية للأبناء، والبنات، وأصبحت الشاشة هي السبورة، والمعلم، وناقلة المعرفة للطالب، وما من شك أن البعد المكاني بين الطالب، والمعلم يترتب عليه صعوبة التحكم في الانتظام من قبل الطالب، وربما قلة التركيز لانشغاله بأمور أخرى تحدث داخل المنزل مما لا طاقة للمعلم في التحكم به، خاصة مع الأطفال الصغار على خلاف طلاب الصفوف المتقدمة الذين يمكن إدارتهم ذهنيا، ومشاعريا بالنقاش، والأسئلة المتبادلة بين المعلم، والطلاب، أو بين الطلاب أنفسهم تحت إدارة المعلم.
في الوقت الراهن لم يعد هناك ما كان يعرف بالمدارس النائية، وقد يختفي هذا المصطلح كلية مع تطور التقنية، بل ربما المدرسة بصورتها التقليدية تختفي هي الأخرى ليحل محلها الشكل الحديث عبر الوسائط إذا تم تدارك الإشكاليات المرتبطة بعدم انتظام الإنترنت، وتوافر الأجهزة للأقل قدرة مالية، إضافة إلى تطور التقنية لتمكن المعلم من مشاهدة الطلاب، إضافة إلى التفاعل الصوتي لحل إشكالية الإدارة الصفية. من نتائج الوضع الراهن اختفاء حافلات نقل المعلمات من أماكن سكنهم إلى مدارسهن بعيدة المسافة، ومخاطر الطريق، والحوادث المترتبة على ذلك، كما أن النقل المدرسي قد يكون من الماضي، وتختفي ميزانيات، وعقود النقل، والصيانة، والسائقين.
الإدارة التعليمية بدورها قد يطولها التغيير فمدير المدرسة يمكنه إدارة مدرسته، أو مدارسه من منزله ليسجل حضور المعلمين، وانتظام سير التدريس، والتوجيه المدرسي هو الآخر قد يتم بواسطة التطبيقيات، ويحضر الموجه الدرس، ويناقش الطلاب، والمعلم، ويعطي التغذية الراجعة حسب ما يلاحظه من نقاط قوة، وضعف، كما أن إشكالية التوفيق بين الزوج وزجته في تعيينهما في مدينة واحدة ستزول، ذلك أن المعلم لن يكون بالضرورة معلما لطلاب في مدينة سكنه، وإنما يعلم طلابا في منطقة أخرى، طالما أن التقنية تعمل بشكل جيد.
هذا الوضع المتوقع مستقبلا في شكل المدرسة سيحدث أثره في كل مفاصل العملية التعليمية، دون استثناء، حتى إن اختبارات الورقة، والقلم ستكون أثرا بعد عين ليحل محلها الاختبارات المحوسبة، مع ما يتطلبه ذلك من أنظمة، وضوابط تضمن سير الاختبار بالشكل الصحيح الذي يكشف التحصيل الحقيقي للطلاب.
الصورة المستقبلية للتعليم، وشكل مدرسة المستقبل، وما يترتب عليها من آثار تتطلب مناقشات عميقة، وواعية، توازنا بين الإيجابيات، والسلبيات، فالتعليم عن بعد مع ما قد يوفره من أموال لبناء المدارس، وصيانتها، وتشغيلها، إلا أن المدرسة التقليدية تمثل بيئة تربية شاملة، تتم فيها ملاحظة السلوك، والتعلم بالقدوة، والمحاكاة، كما يتم فيها التطبع الاجتماعي، وترسيخ القيم، والعادات الحميدة، والقدرة على التفاعل مع الآخرين واكتساب المهارات الاجتماعية وتنمية الذكاء الاجتماعي، ذلك أن المدرسة الإلكترونية تفتقد هذا الجانب لعدم توافر البيئة الاجتماعية، كما في المدرسة التقليدية.