نظرياً الأشياء غير المتوقعة هي التي تُشكل صدمة. بمعنى آخر، فإن غير المتوقع وحده هو القادر على إحداث الصدمة.
ولكن واقعياً هذه الفكرة النظرية ليست دائماً صحيحة مائة في المائة. فكم من أمر رغم كونه متوقعاً فإننا نشعر إثر حدوثه بالصدمة. ولعل المثال الدامغ على ما ذهبنا إليه هو الموت، نكون على يقين أن حالة العزيز علينا ميؤوس منها، وأنه في مرحلة متقدمة من المرض العضال، ومع ذلك عندما ينتهي أجل مريضنا العزيز فإننا نعيش الصدمة والفجيعة.
هذا المدخل أردناه لتنسيب علاقة الصدمات بالمتوقع وغير المتوقع، وذلك في سياق تناولنا موضوع صدمة تونس من تصنيفها الأسبوع الماضي من وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني دولةً تنتمي إلى صنف «ب 3»، وهي المرتبة ما قبل إعلان تونس دولة مفلسة غير قادرة على تسديد ديونها من جهة، مع التحذير من إقراضها من جهة ثانية.
شعر التونسيون بالصدمة والخيبة، رغم أنه في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي صُنفت من نفس الوكالة ضمن تصنيف «ب 2»، الذي يعني أن تونس ذات نظرة مستقبلية سلبية. وللعلم فإن هذا التصنيف أيضاً قد أحدث صدمة منذ 5 أشهر ماضية، ولكن على ما يبدو لم تكن بالصدمة الفاعلة والخلاقة التي تحدث حالة من اليقظة والاستنفار من أجل إنقاذ ما يجب إنقاذه. وهو رد فعل يمكن أن نستنتج منه أن النخب الحالية في تونس تفتقد الشعور بالمسؤولية تجاه انعكاسات، مثل هذه التصنيفات ومدلولها على الشعب التونسي.
السؤال الذي يفرض نفسه مبدئياً؛ لماذا بلغ التدهور بتونس هذا الحد؟
حسب تقرير «موديز»، فقد تم تفسير تراجع تونس الاقتصادي بضعف الحوكمة وتعطل الإصلاحات، خاصة في القطاع العمومي، وتداعيات جائحة كورونا. وهي تفسيرات مقنعة، ويُصدقها الواقع الاقتصادي. والمشكل الأكبر في التقرير المشار إليه ليس فقط في إعلان الأزمة واقتراب تونس من قاع الهاوية مالياً واقتصادياً، بل إن المشكل في الإشارة إلى العجز الظاهر في تجاوز أسباب التدهور، وغياب الأفق الذي يجعل من أمل تحسن تصنيف تونس في السوق المالية أملاً واقعياً قابلاً للتحقق.
طبعاً اليأس من الشعوب، من الأفكار التي فنّدها تاريخ الشعوب. واليأس في المثال التونسي مردّه الأزمة السياسية وتشعبها وبلوغها مستوى متقدماً من التعقيد. فالتدهور الاقتصادي التونسي ارتبط بالتجاذبات الآيديولوجية والصراعات، وحرب الكل ضد الكل.
وإذا عدنا وتأملنا بموضوعية مسار الحكومات التونسية خلال العشرية الماضية، فسنجد أن كل الحكومات لم تتمتع بالحد الأدنى من الاستقرار حتى تنكب على معالجة ملفات التشغيل والبطالة والإصلاح في القطاع العمومي المرهق لكاهل الدولة وأزمة التعليم وقطاع الصحة.
لقد رفضت الأحزاب اليسارية والحداثية الإسلام السياسي، وتحديداً حركة النهضة، وتم نصب العداء والنقد لكل من تحالف مع حركة النهضة. وكانت المعارضة فاعلة، رغم ضعف التمثيلية البرلمانية، وذلك لأن معارضتها التحمت مع الحركة الاحتجاجية الشعبية المنادية بتحقيق أهداف الثورة التي عرقلها عدم الاستقرار السياسي والقطع مع ثقافة الغنيمة. وفي مقابل هذا الرفض من الأحزاب المعارضة لوجود الإسلام السياسي في الحكم فإن حركة النهضة لم تنجح في تقديم البديل، ووقعت في أخطاء أسهمت في تراجع شعبيتها، وفشلت في المحافظة على من تحالفوا معها، رغم تكلفة التوافق معها، أي أنها قدّمت أداء سياسياً براغماتياً ونفعياً بالمعنى الضيق للكلمة، أثّر في مصداقية ما قطعته من وعود جوهرية في حملاتها الانتخابية. ولقد مس هذا التأثير القواعد الشعبية المنتمية للحركة نفسها.
ومنذ أسابيع طويلة، دخلت تونس في أزمة سياسية حادة، وذلك في قلب جائحة كورونا وتداعياتها الخطيرة على الفئات الشعبية الضعيفة والمتوسطة، حيث قام رئيس الحكومة بتحوير (تغيير) وزاري استهدف الوزراء الذين رشحهم رئيس الجمهورية، فكانت نتيجة الصراع السياسي المجاني حول من يهيمن أكثر على الحكم، والحقائب الوزارية، ورفض رئيس الدولة أن يؤدي بعض الوزراء الجدد اليمين أمامه، وهو بند دستوري أساسي.
الواضح جداً أن الصراع السياسي أقوى من الصدمات الاقتصادية وتدهور أحوال البلاد. وهنا نفهم سر اليأس ومصدره.
اللافت للانتباه أنه رغم ما يمثله هذا الإخفاق من مادة دسمة للمعارضة التونسية ولخصوم النخبة الحاكمة حالياً في تونس، فإننا نلاحظ نوعاً من اللامبالاة، ومن غياب طرف سياسي فاعل يعلن صيحة الفزع ويجمع الجميع إلى طاولة الحوار والتفاوض والتجاوز. ويبدو أن إطلاق هذه الصيحة قد تجاوزه تراكم الإخفاقات، ما يجعل من مصلحة المعارضة سياسياً المواصلة في مواقفها، باعتبار أن استراتيجية المعارضة هي جعل هذه المنظومة التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة في حالة عزلة. فالهدف هو عزل الأطراف الحاكمة سياسياً والمرور إلى مرحلة سياسية لا تحكم فيها حركة النهضة.
وهنا لا بد من طرح مجموعة من الأسئلة، هل تتماشى استراتيجية المعارضة التونسية مع شروط الديمقراطية؟ وكيف يتم العزل في التجارب الديمقراطية؟ وهل تبني مثل هذه الاستراتيجية، مهما كانت أسبابها مقنعة، يأخذ بعين الاعتبار الفاتورات الاقتصادية وواقع الفئات الضعيفة؟
والسؤال الآخر الأكثر إلحاحاً، ماذا ستفعل الحكومة التونسية التي خططت للميزانية الجديدة، على فرضية أنها ستقترض 16 مليار دينار، والحال أن تقرير «موديز» سيجعل قدرة تونس على التفاوض مالياً ضعيفة جداً؟
تونس مقبلة على صدمة حقيقية وموجعة للجميع إذا استمر الصراع الآيديولوجي السياسي الأعمى البصيرة. وإذا أراد الجميع الحياة فلا مفر من جعل الموجع والصادم مصدر خلق ونجاح.