العزل المديد المتوالي بأسبابه وآجاله وأحواله وسُبله المحددة والمحدودة، واحتضانه ما في الدواخل من شروخ، وانسلاخ عن الخارج وناسه والهواء ورذاذه «المسموم»، يجعلنا نواجه ما درجنا طويلاً على مجافاته والهروب منه، أي ذواتنا، وما يفعل فيها، في مرايانا المكسورة.

حَجْرٌ، حدود، من هاتين الكلمتين بدأ سجال لا ينتهي، وربما قد لا ينتمي إلى أصول السجال. فوجودنا لأكثر من عام رهائن حركة ملتبسة في ظل تخوم كأنما من معدن وفجاج، ومن وعورة وسدود، وعلى غفلة أو غير غفلة خضعنا لكل ما يفصلنا، وينهانا. ها هي الجغرافيا اليومية تتبدل فيزيائياً، مادياً، كأنْ بتنا نعيش في لحظات مقطوعة، عن زمنها الماضي والمستقبل: الرتابة تمشي بخطانا، تتغلغل في صمتنا، تصرخ في صوتنا، تجعلنا نحس أننا في أمكنة خرافية من شدة واقعها الضاغط، كخراف مرمية في الصحراء.

أعاد الوباء إلينا خطوط التماس، بين ما هو داخلي وخارجي، وأليف وغريب، بين ما هو شريك ومتباعد، فالقواعد والحسابات الميترية والكيلوميترية للتنقلات شوشت مساحات الحركات حتى المسموح منها. باتت أكسح من أن تعبر أي حدود، فكل مترامٍ، مزروع بالعوائق والإشارات: المحلات التجارية المفتوحة نسبياً، محاصرة بمناطق ممنوعة بشرائط أو طاولات، والحواجز راسخة متينة، أمام المطاعم والمقاهي والحانات المغلقة، كأنها فضاءات منتزعة عن حياتنا، أمس، كانت تلك الأمكنة مشعشعة، متلألئة، فباتت آباراً معتمة في شوارعنا بلا خصوصياتها ومآلاتها، محايدة، مجهولة، فأصبحت أجسامنا نفسها حدوداً «صلبة»، لكنها جاثمة مفصولة عن تعاملها مع الواقع.

الكمامات ألغت الوجه بقسَماته، من فضائه العمومي وتعابيره، فبتنا مجبرين على التواصل بالإشارات (كالخرس) فنجيب برفع الحواجب، أو بخفض العيون أو رفعها أو إغماضها. انطفأ التعبير خلف ستار طبي. إذا تمت لقاءات ما، فمع مجهولين لا نعرف إلى مَن نتوجه خلف تلك الأقنعة الضرورية، كأن الوجه بات متخيلاً أو مادة تجريدية: حذفنا الجزء الحيوي من وجودنا. ألغينا حدوداً أخرى مرسومة في ساعات محددة من أيامنا المتشابهة، منع التجول: حدود زمنية، يصبح فيها وجودنا خاضعاً للقوانين ذاتها بين جدراننا اليومية، فالقانون يرغمنا على ملازمة بيوتنا، هذا المنع لا يجعل من عتباتنا ملاذاً بل مجرد ملجأ، يحيلنا على مفازات الداخل، في حروب بطيئة أو متفجرة. يصبح البيت مربعات إذا كان عائلياً، ومساحة معزولة إذا كان فردياً، أي العزلة المهترئة داخل العفن الجسدي والفيزيائي.

منذ عام، حياتنا تذبل وتيبس، تبدو كطرق لا تفضي إلى أي مكان، تدور على نفسها كطاحونة غبية، مسلوخة من هندساتها الخصوصية، من خلال احتكاكنا الجسدي بعالم يتضاءل ويتقلص، أكثر فأكثر، ليقع في الرتابة، أكثر فأكثر، الرتابة التي تجعل حواسنا راكدة، ومخيلاتنا كاسدة، ومشاعرنا نافدة.

إنها تجربة الصحراء، تقطع خيطاً خيطاً حياتَنا الاجتماعية، لترمينا أمام ذواتنا ومرايانا نواجه فيها ما كنا نخشى أو نجافي مواجهته: الموت، المستقبل، الأسئلة المصيرية، القلق، المرض، العزلة غير المأهولة، الفراغ المادي والروحي، الخوف من الحنين إلى الماضي، كما الخوف من المستقبل.

هل انتهى زمن استعادة الزمن الطبيعي اللا ما قبلي؟ هل تكون هذه الصحراء مدرسة الرجوع المرن إلى هذا الما قبل؟ كما كتب «سان أكزوبري»: ما يُجَمّل الصحراء أنها تخبئ أحياناً بئراً ما، في مكانٍ ما.