سواء تشكلت الحكومة اللبنانية المنتظرة بفارغ الصبر اليوم أم غداً أم بعد غد ...أم بعد شهر، لن تستطيع أن تعيد البلد وأهله الى ما كانوه قبل الأزمة المالية التي عصفت به. الأفضل والأجدى والأكثر منطقية القول إنها ستعيدهم الى أبعد من ذلك بكثير. إلى ثلاثين سنة مضت أو إلى أكثر وربما إلى قرن.

عملياً انتهى عصر الرخاء والبحبوحة المصطنع وسيعود اللبنانيون إلى أرض الواقع، وهو واقع سيثقل كواهلهم إلى أمد طويل ريثما يسددون ديوناً استُجلبت على أسمائهم ليتحول معظمها إلى حسابات سياسيين ومصرفيين وتجار ومقاولين وموظفين كبار وصغار وقضاة وأمنيين...، أكلوا بيضة البلد وتقشيرتها وما زالوا ممسكين بخناقه مانعين عنه الماء والهواء، إلا بمشيئتهم وبقدر ما يستنسبون...

حال اللبنانيين اليوم كحال من تلقى ضربة بالمطرقة على الرأس ولم يستفق منها كلياً بعد، ما زالوا يسألون ويفتشون عن المطرقة فيما هم يعرفون تماماً من ضربهم بها. لقد دوختهم الضربة فتاهوا. ما عادت مهمة المطرقة، أو العصا، او القنبلة التي انفجرت بهم. انهم كالسكارى الذين يخدرون عقولهم وأعصابهم ويتصرفون على غير هدى خوفاً من أن يستفيقوا فيضطروا إلى التفكير بما ينتظرهم في آتي الأيام القريبة.

كيفما تشكلت الحكومة وممن تشكلت، لن تجترح العجائب. ستكون عاجزة ومكبّلة بالأسباب نفسها التي أخّرت ولادتها، وكانت قادت البلاد إلى الإفلاس. قد ينخفض سعر الدولار وكذلك أسعار بعض السلع، لكن ذلك سيكون كإبرة المورفين المسكنة للأوجاع الثقيلة. هناك شيء كبير تغيّر في البلاد. شيء يشبه أياماً سوداً عرفتها في مراحل سابقة عندما انخفضت قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي الذي نستورد به كل شيء من حبة السكر إلى قلم الرصاص إلى غالون الزيت الى السيارة... ويفوقها قتامة... لكن هذه المرة لن تتدفق الأموال من كل حدب وصوب، لا مساعدات ولا ديوناً. العالم والعرب كل مهتم بنفسه وبأزماته السياسية والأمنية والاقتصادية والصحية. ربما يساعدوننا، فقط، كي لا نموت جوعاً ويضطروا الى إغاثتنا من أغذية مستودعاتهم.

تغير لبنان كثيراً ويحتاج وقتاً طويلاً ليتعافى، اذا سمح سياسيوه له بذلك، وبانتظار معجزة إلهية، أو تطور غير متوقع، فإن استقراء الواقع واستشراف المستقبل يقودان إلى رسم صورة واقعية عن حياة اللبنانيين خلال عقد مقبل على الأقل.

لقد ذابت الطبقة المتوسطة محركة الاستهلاك والاقتصاد كفص ملح. لم يتبقَ منها سوى ركام متعب هو أقرب الى الفقر منه الى البحبوحة. ومع انهيار هذه الطبقة التي تضم أصحاب المهن الحرة من أطباء ومحامين ومهندسين وقضاة وأساتذة وكبار الموظفين وإعلاميين وتجاراً وصناعيين حرفيين وما شابههم من أصحاب المداخيل المرتفعة نسبياً، ستتوقف بشكل كبير حركة الإنتاج والعمران والتجارة وسيجد أصحاب الحرف والمهنيون أنفسهم أمام بطالة تطاول كل المرافق الانتاجية، ومع البطالة ستتعمق مظاهر الفقر وستنتشر الأعمال الهامشية وأعمال البلطجة والتعدي على الاملاك العامة والخاصة.

سيتخلى اللبنانيون عن الكماليات، وهم تخلوا حتى الآن، لكن الأمور ستزداد سوءاً مع نفاد المدّخرات التي سرقت المصارف والدولة معظمها واهتراء البنية التي راكموها خلال سنوات الرخاء الخادعة، وسيصبح الحصول على الضروريات أمراً صعباً لدى شرائح واسعة من الفقراء الذين سينزلقون الى ما دون عتبة الفقر بكثير. سيكون الحصول على الخبز وقليل من الحبوب أمراً معقداً لهؤلاء.

ستفتقد شوارع لبنان سيارات التاكسي الحديثة وسيحل "التوك توك" محلها، لن يشتري أحد، من خارج طبقة كبار التجار والأثرياء الجدد ومهربي الممنوعات وما شاكلهم، سيارة جديدة. سيظلون "يرقعون" سياراتهم المتهالكة الى أن يقضي الله امراً كان مفعولاً.

سيقفل كثير من المطاعم والملاهي أبوابه - وقد بدأ ذلك - ستنتهي عادة الذهاب أسبوعياً الى المطعم مع العائلة والسهرات والدعوات. لن تقام "العزائم" في المنازل، ولن يقصد الشبان والشابات صالات الأفراح. من سيتزوج، اذا استطاع، لن يكون قادراً على تأمين نفقات العرس. ستصبح زفافاتنا بلا أفراح. وعليه سيصبح قطاع كبير من العاملين في هذه المجالات بلا عمل.

سيتخلى اللبنانيون عن ترف السفر والسياحة. خلال السنوات الماضية لم يبقَ لبناني لم يزر مصر أو تركيا أو جورجيا أو أرمينيا وغيرها من الوجهات السياحية الرخيصة. لن يعودوا قادرين على ذلك، إلا لمن ملكت ايمانهم. سيكون باب السفر مفتوحاً "روحة بلا رجعة" هجرة نهائية. غادر وسيغادر كثير من الأطباء والمهندسين والعلماء وحملة شهادات الدكتوراه في مختلف ميادين العلم، وبالتأكيد لن يعود أحد من الذين يعملون ويدرسون في الخارج. هل كان عبثاً تندر العاملات الإثيوبيات وهن يغادرن مطار بيروت بدعوة اللبنانيين إلى العمل لبنانيين في إثيوبيا.

سيعود اللبنانيون الفقراء الى طب الأعشاب والرقية والتمائم وستصبح زيارة الطبيب ترفاً فوق طاقتهم. سيعودون الى قنديل الكاز والشمعة والى موقدة الحطب في الأرياف الفقيرة، ويزرع من يملك أرضاً أمام منزله بعض الخضر، لكن ذلك لن يسمن ولن يغني عن جوع.

ستتغير العلاقات الإجتماعية، ستتغير بنية الأجساد المتعبة، ستتغير المهن، سيتغير اللباس والغذاء والسكن.

سيتغير كل شيء. ستتغير الحياة كلياً.

ستعودون فقراء كما كنتم.