الاتهامات الروسية - الأمريكية المتبادلة، حول الملف الإنساني في سوريا، تشير إلى صعوبة توصل الطرفين إلى اتفاق عبر الأمم المتحدة من أجل إدخال المساعدات. موسكو تريد وضع المساعدات تحت سيطرة ورحمة سلطة الأسد، كنوع من الاعتراف بشرعيتها كسلطة مسؤولة عن عموم السوريين بمن فيهم أولئك الذين خارج مواقع سيطرتها! ووزير الخارجية الأمريكي الذي ترأس اجتماع مجلس الأمن يوم الاثنين طالب بإعادة فتح منفذي باب السلام واليعربية عبر الحدود التركية، وكانت موسكو في الصيف الماضي قد استخدمت حق الفيتو من أجل تقليص المعابر إلى معبر واحد ينتهي العمل به في الصيف.

المأساة المعيشية السورية لن تحرض موسكو وواشنطن على تجاوز الخلافات والبرود، هناك ملفات عالقة بينهما لها أولوية على الشأن السوري. موسكو تظهر راغبة في المفاوضات، فهي تعطي إشارات من نوع تدخلها لتسهيل انعقاد اللجنة الدستورية، وفي المقابل تهوّل من وجود احتمال جدي لتفكك ما تسميه الدولة السورية بسبب الوجود الأمريكي الداعم للأكراد. أما واشنطن فلا تكترث بالضجيج الروسي، في حين تنهمك دبلوماسيتها في جهود إحياء المفاوضات مع طهران، وتعطي لوقف تجاوزات التخصيب الإيرانية أولوية على مجمل شؤون المنطقة.

في واجهة المنطقة ليس هناك من تحرك دولي، ولو وغير متواصل أو في حدود دنيا، سوى المتعلق بتشكيل الحكومة اللبنانية. تقود باريس المهمة برضا أمريكي، قد لا يصل إلى التفويض التام إلا أنه لا يستبعد لبنان كأحد المداخل لإعادة الحرارة للمفاوضات مع طهران. ولعلها المرة الأولى الذي يكون فيها لتشكيل الحكومة اللبنانية أهمية قصوى ربطاً بالانهيار اللبناني، فيما تتضح يومياً آثار هذا الانهيار على الأوضاع المعيشية لمناطق سيطرة الأسد في سوريا.

لا يتعلق الأمر بتكهنات أو فرضيات، فالانهيار الاقتصادي اللبناني قاد معه نظيره الأسدي إلى الهاوية بوضوح شديد. حتى على مستوى التفاصيل، لم يعد خافياً ذلك الترابط بين تقلبات سعر صرف الليرة اللبنانية ونظيرتها السورية، ولا أثر تهريب بعض السلع أو إيقافه على الأزمات في الجانب الآخر. لم تدفع جهات خارجية بلبنان إلى هذه الهاوية، باستثناء النفوذ الإيراني المهيمن على السلطة ومساعدة نخبة الفساد التقليدية، ما فعله الغرب والخليج هذه المرة هو عدم الهرولة لإنقاذ لبنان بشروط أصحاب النفوذ فيه.

في عدم الهرولة لإنقاذ لبنان كيفما اتفق، هناك رسالة لنخبته السياسية وأيضاً لممثلي النفوذ الإيراني، يُراد بها القول لتلك النخبة أن زمن إفلاتها من المسؤولية بلا حدود قد ولّى، ويُراد إفهام طهران أن هيمنتها بالقوة على الدولة والقرار اللبنانيين لن تنفعها إذا تُرك لها لبنان لتتحمل مسؤوليته الكاملة. لقد سئمت الدول المانحة إبداء الكرم الذي قوبل دائماً بسوء الاستخدام، وبأن يقع عليها عبء توازن لبنان فلا يترنح تحت العسكرة الإيرانية وحدها، وربما وجدت إدارة ترامب في الانهيار اللبناني فرصة للتضييق على طهران غير القادرة مالياً على مساندة حلفائها في لبنان وسوريا.

كشف أيضاً انفجار المرفأ والانهيارات المالية السابقة واللاحقة عليه مدى استخدام لبنان من قبل سلطة الأسد وحلفائها فيه، ومن العسير الظن بأن ذلك كان غائباً عن علم أجهزة المخابرات الكبرى. يصعب مثلاً الاقتناع بأن أحداً من تلك الأجهزة لم يتتبع مصادر المواد المتفجرة "أو التي تصنّع منها المتفجرات" القادمة إلى قوات الأسد، على الأقل لأن أكثر من جهاز مخابرات يرصد احتمال حصول الأسد على مواد غير تقليدية. الأرصدة المالية للتجار العاملين مع الأسد، وخطوط تهريب السلع العادية، لا يحتاج كشفهما إلى مهارة. يمكن اختصار تلك المرحلة بوجود سماح دولي بإنعاش الأسد من خلال المصارف والمواد المتفجرة والسلع الاستهلاكية، استكمالاً لدور ميليشيا حزب الله في سوريا.

تأخرُ تشكيل الحكومة اللبنانية يغري بربطها بملفات تتجاوز لبنان وانقساماته التي ليست بالمستجدة، فمن شبه البديهي ألا يكون التأليف بعيداً عن أجواء قنوات الوساطة بين واشنطن وطهران، إذا لم تكن هناك قنوات سرية مباشرة باشرت نشاطها. واليوم، فوق رفع العقوبات الأمريكية الذي سيأتي في النهاية، ليس لدى إدارة بايدن جزرة تقدّمها على نحو غير مباشر سوى في لبنان، ومن خلال تشكيل حكومة يقرر الغرب والخليج أنها أهل للثقة واستلام المساعدات.

في مفاوضات النووي الأولى، نالت طهران جزرة السماح لها باستباحة سوريا والدفاع عن واليها في دمشق، ولا يتحمل أوباما مسؤولية الفشل الإيراني الذي مهّد للتدخل العسكري الروسي. تغيرت لوحة النفوذ، ولا تتوقف موسكو عن محاولة إثبات سيطرتها على والي دمشق ومفاصل سلطته، بينما تعاني الميليشيات الإيرانية من رقابة وردع إسرائيليين. هذا يرفع من شأن البوابة اللبنانية، حيث لا وجود للنفوذ الروسي هنا، والصفقة تعني منح جرعة معنوية ضخمة لطهران.

من خلال الاتفاق على تأليف الحكومة اللبنانية الجديدة، وما هو منتظر منها لوقف الانهيار، قد تتجاوز واشنطن وطهران ذلك الجدل الأمريكي-الروسي في الأمم المتحدة، ويعود لبنان إلى دوره كمتنفس لبشار الأسد من العقوبات الدولية، بفضل طهران وصفقاتها لا بفضل موسكو. إدارة بايدن، ضمن سياساتها الحالية، قد لا تكون بعيدة عن إعطاء طهران ما لا تود إعطاءه لموسكو. فوق ذلك، قد تكون بوابة "التهريب" اللبنانية حلاً لمعضلة الإدارة التي لا تريد خنق الأسد كلياً، ولا تريد تقديم قليل من الأكسجين له مباشرة.

على الضفة اللبنانية، لن يكون هناك ممانعون لاستخدام لبنان على هذا النحو من بين النخبة الحاكمة، فقط قد تنشأ خلافات حول الحصص من الأرباح التي ستدرها التجارة المخفية. هذه أكثر حكومة لبنانية ينتظر بشار الإفراج عنها، وأن يشترك مع اللبنانيين في ذلك فهو ليس بالأمر النادر إذ لطالما تسلق من لا يستحق على أكتاف أصحاب الحق.