يعيد البطريرك بشارة الراعي تصويب البوصلة في عظته كل يوم أحد بعد أن يكون أهل الحكم أتحفونا على مدى أسبوع بسجالات لا طائل منها تغرق من يستمع إليهم بمتاهات هدفها إغراق الرأي العام ببروباغندا تهدف إلى إخفاء حقيقة الأمور وجوهرها.

أولوية الأولويات هي تأليف الحكومة وليس الصراخ حول ما يسميه بعض الفريق الرئاسي "استعادة الميثاقية والتوازن" في السلطة التي ستتحول إلى صورية وفارغة من مضمونها، وتقضي على البلد إذا ظل أصحابها يتوهمون بأنهم بإعاقة ولادة الحكومة يحصلون على اعتراف وتسليم بالإخلال بهذا التوازن الذي يرتكبونه بشكل فاضح منذ 4 سنوات ثم يتباكون بحجة فقدانه لأنهم يطلبون المزيد من التسلط والتفرد. أولوية الحكومة تتقدم على التدقيق الجنائي الذي تحول وسيلة دعائية لذر الرماد في العيون، لا أكثر. وهو أمر يدركه الخارج قبل الداخل.

لم يعد المسؤولون عن متابعة أزمة لبنان المستعصية في الخارج يهتمون للذرائع التي تتحدث عن صلاحيات هذا الموقع الرئاسي أو ذاك في التركيبة اللبنانية الداخلية والموزاييك الطائفي الذي يتحكم بها، ويتسبب بالتباسات وبضياع لدى هؤلاء المسؤولين وبعض ديبلوماسييهم في بيروت، حين يأخذهم قادة سياسيون إلى تاريخ الحروب والأزمات، بقراءة وحيدة الجانب وشديدة الفئوية. الخارج بات مثل البطريرك الراعي يركز على مسألة في غاية الوضوح: لبنان ذاهب إلى الانهيار الشامل قبل نهاية شهر أيار المقبل، الذي يعني وقف دعم الاستيراد من أموال المصرف المركزي، الذي يقود في شكل أوتوماتيكي إلى العجز عن استيراد مواد رئيسة، أولاً وإلى استيراد بعضها بسعر صرف للدولار الأميركي صاروخي وفق السوق السوداء، بحيث يحرمُ من شرائها السواد الأعظم من اللبنانيين، ثانياً. وما يحصل حالياً من فراغ رفوف في السوبرماركت سيتضاعف. وستعجز المبادرات الخاصة والحزبية عن توفير بعض المواد الأساسية مهما كانت إمكانياتها، بعد فترة قصيرة، أو ستضطر إلى استيرادها بأسعار مرتفعة بقدر ارتفاع الدولار ولن تعين الفقراء.

لن تقف الانعكاسات عند هذا الحد. في إمكان من يريد أن يتخيّل ما سيواجهه البلد أن يتوقع ما ستعانيه مؤسسات الدولة الإدارية والأمنية والقطاع الصحي الرسمي والخاص، جراء هذا الانهيار، بحيث تضمحل الدولة وتذوب. هذا ما قصده جان إيف لودريان حين تحدث عن خطر زوال لبنان، وما عناه البابا فرنسيس عندما أشار إلى خطر فقدان البلد هويته... وما واصل البطريرك الراعي ومطران بيروت للروم الأرثوذكس دق ناقوس الخطر حياله. ولاقاهما المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان أمس بوضوح في التشخيص حين قال إنه ليست في البلد أزمة دستورية بل هو ضحية الارتهان للمحاور والتدمير المتعمد للمؤسسات.

يصاب الديبلوماسيون والزوار الكبار إلى بيروت بالصدمة لأنهم يرون الخطر الداهم فيما لا يبدو أن بعض محدثيهم من المسؤولين يدرك مدى اقترابه، أو إذا كان يدرك فإنه يحجم عن القيام بما هو مطلوب من أجل مواجهته، أي تشكيل حكومة تبدأ مساراً طويلاً لأجل التصحيح المالي والنهوض لعل الإصلاحات تؤدي إلى الهبوط الآمن، بدل الارتطام المدوي. فقط عند تشكيل الحكومة القادرة على الإصلاحات، هناك خطة باتت معروفة لدى المجتمع الدولي، للمساعدة على تخفيف وطأة الانهيار.

المعضلة الكبرى هي أن المجتمع الدولي لا جواب لديه عما يجب فعله بعد حصول الانهيار، على كل الأصعدة، إذ لم تكن الدول الكبرى تتوقع هذه الدرجة من الإنكار لدى أهل الحكم.