انسحاب "القوات الأميركية المقاتلة" من العراق يتمّ باتفاق بين الدولتين وفي إطار شراكة استراتيجية تريدانها، وبحسب الأصول المتعارف عليها بين الدول، ووفقاً للمصالح، وليس رضوخاً لقرار برلماني اتُّخذ في 5/1/2020 ردّاً على اغتيال قاسم سليماني و"أبو مهدي المهندس". قد تقول حكومة بغداد الحالية، شكلياً، إن هذا الانسحاب ينفّذ قرار النواب الشيعة الذين صوّتوا عليه وحدهم من دون السنّة والكرد، لكنه لا يلبّي المنحى الثأري الذي توخّته طهران لتقول إن "طرد" الأميركيين من المنطقة هو أقلّ ثمن لدم قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري. فالاغتيال مكّن إدارة دونالد ترامب من إقامة معادلة ردعية حاذرت إيران اختراقها لئلا تُستهدف مباشرةً، وإنْ استخدمت ميليشيات مستحدثة في عمليات متهوّرة لا تميّز بين عراقيين وأميركيين.

في ظلّ المواجهة كان أي انسحاب أميركي "قسري" ليستدرج آنذاك فرض عقوبات على العراق، وكانت إيران نفسها لتتضرّر تجارياً ومالياً. الآن، مع احتمال تخفيف مشروط للعقوبات، سيتمّ الانسحاب وفق أجندة أميركية لم تتغيّر بمجيء إدارة جو بايدن ويتولّى البنتاغون تحديد آلياتها ومواعيدها ومراحلها بالتنسيق مع بغداد، في ضوء متطلّبات محاربة تنظيم "داعش". لكن اللافت في الحوار بين الجانبين أنهما متفقان على أن طبيعة "الخطر" الإرهابي هي نفسها مع "داعش" والميليشيات الموالية لإيران، فكلاهما يشكّل تحدّياً للدولة ولتعايش مكوّنات المجتمع، لا سيما الأقليات، وفيما كان هناك إجماع دولي وإقليمي على التبرّؤ من "داعش" وتأييد لضربه برغم أن دولاً بينها إيران مستفيدة من نشاطه، إلا أن الميليشيات في العراق وسواه تحظى بدعم وتسليح وتمويل معلنة من النظام الإيراني، وهي لا تتردّد في لعب ورقة "الحرب الأهلية" للحفاظ على وجودها.

كانت الولايات المتحدة قد شنّت حرباً وأقامت احتلالاً في العراق لإطاحة نظام استبدادي قالت إنه يملك أسلحة دمار شامل ويؤوي تنظيم "القاعدة"، واضطرّت لاحقاً للإقرار بأن ادعاءاتها غير صحيحة، لكن إدارتَي جورج بوش الابن وباراك أوباما قدّمتا خدمات استراتيجية كبرى لنظام يملك فعلاً كل وسائل الدمار الشامل، بما فيها الميليشيات المذهبية، وحابتا "دكتاتورية الوليّ الفقيه" على حساب العراقيين والسوريين واللبنانيين واليمنيين. لا شك بأن نظام صدام حسين كان استبدادياً ودموياً تمقته غالبية شعبه التي عاشت محنة قاتلة بسبب العقوبات التي استجرّها بغزوه الكويت، وهو أقدم على جريمة الغزو هذه معتدّاً بفائض قوة لديه لينتهي الى فائض ضعف عراقي، ومن ثمَّ عربي، ظهرت معالمه إبان الغزو الأميركي وتأكّدت مع الغزو الإيراني للعراق وجواره.

حالياً، تتفاوض القوى الدولية مع إيران من دون التعرّض لطبيعة نظامها، وتطمح عبثاً لضبط برنامجيها النووي والصاروخي، بالإضافة الى سياساتها الإقليمية. ثمة توافق بين دول مجموعة الـ 5+1 على منع إيران من حيازة سلاح نووي، توافقٌ لم يغيّره اضطراب العلاقات بين أميركا، من جهة، والصين وروسيا، من جهة أخرى. لكن تعديل الاتفاق النووي سيفتح بازار مساومات بين الدول الثلاث، والمساومات مرشّحة لأن تصبح خلافات وتحدّيات حين تُطرح الملفات الأخرى، لأن المصالح متناقضة.

وسط الاحتدام الدولي والإقليمي، يحاول العراق مساراً خاصاً، بطيئاً وصعباً، لتحييد نفسه عن الصراعات الخارجية. يُعزى ذلك بلا شك الى رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي، الذي لا يعوّل على البحث الأميركي في السياسات الإقليمية لإيران، بل على واقع العراق وما يمكن أن يفعله بنفسه. اختير الكاظمي للمنصب كمرشّح على مسافة واحدة من مختلف القوى، ولم يتغيّر خطابه منذ تلك اللحظة: إعادة الاعتبار للدولة وحمايتها وتحصينها، وإعادة بناء المؤسسات وتقويتها، وفي مقدمتها الجيش العراقي والأجهزة الأمنية. لا تزال محصّلة عمله أقل من التوقّعات، بل إن رهانات من اعتمدوا عليه تتراجع، إلا أن إيران وميليشياتها استشعرتا الفارق الذي يُحدثه على مستويات عدّة، بدليل كمّ الغضب والبذاءات التي تبديها ضدّه شخصياً.

في الداخل لم يعمد الكاظمي الى تحدّي جماعة إيران بل الى اختراقها، واضعاً فصائل "الحشد الشعبي" على محك الأهداف التي رسمها لتعزيز الدولة، ومعتمداً على واقع أن "الحشد" خسر الكثير من شعبيته في البيئة الشيعية، وأن الميليشيات الولائية الأكثر تطرّفاً تبقى هامشية حتى لو كانت مؤذية، يضاف الى ذلك أنه أرسى مع إقليم كردستان علاقة يغلب عليها الحوار والتفاهم برغم بعض الملفات الشائكة... وفي الخارج عمل بهدوء على توسيع الانفتاح العربي على العراق، فزيارتاه للسعودية والإمارات أخيراً، وقبلهما التنسيق والتعاون مع مصر والأردن، كذلك مع الكويت وقطر وتركيا، تمثّل خروجاً واضحاً من العزلة الإيرانية. ثم إنه يجهد لتعميق العلاقات مع العديد من الدول الأجنبية التي تنتظر مزيداً من الاستقرار الأمني لتفعيل استثماراتها، متشجّعة في هذا المجال بما تعهّدته واشنطن من تحفيز لوكالاتها وإضفاء ضماناتها الدولية.

عندما تحدّث الكاظمي غداة الحوار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة عن مغادرة ستين في المئة من القوات الأميركية خلال الشهور الماضية، فإنه قدّم الانسحاب الأميركي في سياق عراقي بحت وكنتيجة "لانتفاء الحاجة الى الوحدات المقاتلة الأجنبية". يعني ذلك أمرين: أن قدرات الدولة العراقية تطوّرت، وأن تقليص الوجود العسكري الأميركي يجب أن يُسقط ذرائع إيران وميليشياتها للتنمّر على المجتمع العراقي وتحدّي القوات الحكومية. لا يمكن طهران أن تستمرّ على النهج نفسه فتطالب برحيل "احتلال" أميركي لم يعد موجوداً لتحافظ على احتلال إيراني موجود. فمنذ الآن ستكون أي مواجهة بين الدولة والمتمرّدين عليها، وبين سلاح لا شرعية داخلية له ويُشهَر ضد الجيش وقوات الأمن. حان الوقت لأن يكون التعامل بين بغداد وطهران كما بين دولة ودولة، ويُفترض أن تمنع إيران أتباعها من خوض أي مواجهة لأنهم سيخسرونها. هناك اهتمام متزايد لدى الحرس الثوري الإيراني بانتخابات تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، بغية إعادة ترتيب "البيت الشيعي"، خصوصاً أن ثلاث قوى (حيدر العبادي وعمار الحكيم ومقتدى الصدر) تتنافس على دعم الكاظمي وتحاول كلٌّ منها ركوب "تياره" أو التدخّل في تشكيله. لكن الأكيد أن طهران لم تعد قادرة على الإتيان برئيس وزراء من أتباعها المباشرين أو غير المباشرين.