وهكذا تجاوزت سفينة الأردن العاصفة الأخيرة بسلام، كما تجاوز في الماضي عواصف أشد وأخطر وأنكى. قاد السفينة بعد هبوب العاصفة الأخيرة ملك ماهر، وعمّ حكيم يُعتبر «رمانة الميزان» الهاشمية.
وقوع الأردن جغرافياً في منطقة العواصف والتيارات السياسية أكسب جِلْده سماكة وصلابة خلقت فيه قدرة مذهلة على تحمل الصدمات والكدمات، أقول مذهلة لأن البلد صغير في حجمه، قليل في سكانه، فقير في موارده الاقتصادية، شحيح في مصادره الطبيعية، وتركيبته السكانية ليست كأحد من الدول، وأثبتت مَلَكِية الأردن أنها، كبقية الملكيات العربية، لها جذور ضاربة في تركيبة شعوبها، ولا ترى الأخطاء والتقصير والقصور، إن وجدت، إلا غباراً عالقاً يسهل مسحه والتعامل معه.
ولك أن تقارن بين التحولات السهلة الممتنعة التي تجري في الممالك العربية بعد رحيل رأس الدولة، أو تنحيه، وما يعقبها من تغييرات كبيرة في المناصب السيادية، يجري هذا الحراك الشديد والتغييرات الكبرى بسلاسة ويسر، وبين غيرها. قارن مثلاً تجربة ملكية الأردن الراسخة في انتقال السلطة بنظام البعث العراقي والبعث السوري وغيرهما من الطارئين على الحكم القافزين على كرسي الحكم من دبابة اختلسوها في ظلمة ليل دامس من ثكنات الجيش.
لعلكم تتذكرون الخطاب الدموي المرعب لصدام حسين في قاعة الخلد، وهو يستهل أولى ساعات حكمه، بعد تنحٍّ سلمي أبيض لرئيسه، حسن البكر. حينها قاد صدام مجزرة دموية، ليس لزعامات أحزاب أخرى منافسة أو فصيل سياسي مختلف يطمح إلى السلطة، بل للرفاق البعثيين الذين كانوا فقط يختلفون معه أو يخشى من منافستهم، أو لم يدخلوا مزاجه. أشعل صدام سيجاره الكوبي الفاخر، وهو متسيد بكل طاووسية منصة قاعة الخلد التي اختنقت من كثافة حضور «الرفاق»، وأخذ صدام يعدّ أسماء «الخونة»، ويأمر زبانيته بجرجرتهم فوراً إلى منصة الإعدام، بعد كيل السباب والشتائم واللعنات، ولا تسَلْ عن النفق الدموي المرعب الذي أدخل فيه صدام العراقَ على مدار ثلاثين عاماً من الإعدامات والتصفيات التي لم تسلم منها حتى قراباته وأصهاره وأصدقاؤه ودائرته القريبة من زملائه وأعوانه، ناهيك بالحروب العدمية والقرارات المتهورة؛ كغزو الكويت، وهنا يكمن الفرق الشاسع بين الطارئين على الحكم والراسخين فيه.
يحد الأردن عراق مضطرب وشام محترق وكيان مغتصب، وكل هذه الكيانات حمَّلت الأردن من الهجرات السكانية وعبئهم الاقتصادي والمعيشي فوق طاقته، ومع ذلك فاليد الأردنية ترحب، والأخرى تبني وتشيد، ومع شح الموارد الطبيعية، فقد حقق الأردن نجاحات لافتة في الصحة والتعليم، وهما «ترمومتر» تعافي الدول، وفي تقديري، لو لم يكن قدر الأردن الجغرافي أن يكون في هذه المنطقة الحرجة الملتهبة ذات الصفيح الساخن، لربما كان نموذجاً لسنغافورة شرق أوسطية أخرى.