صارت الحرب الأهلية اللبنانية ذكرى للأجيال التي عايشتها، ورواية تروى للأجيال التي تلتها، ومادة بحث للدارسين. عشرات الكتب السياسية، عشرات الروايات، آلاف المقالات، عشرات السير الذاتية والاعترافات، عشرات وربما مئات الرسائل وأطروحات الدكتوراه، عشرات الأفلام السينمائية ... أنجزت عنها وأصبحت ذكرى انطلاقتها "الرسمية" في 13 نيسان (أبريل) 1975 يوماً للاحتفال بأسوأ أيام التاريخ اللبناني الحديث، تتوالى فيه السرديات والنوستالجيات والاعترافات وتذكر البطولات والمغامرات... وحتى الترحم على أيام صعبة لكنها أفضل من الوضع الحالي، وعلى زعماء أوصلونا الى الحرب لكنهم لم ينهبونا.

لقد توقفت الحرب ميدانياً، لكنها لم تنته كليا بعد، نقيض الحرب هو السلام، فهل نعيش في سلام؟ لا يبدو الجواب "نعم". لقد توقفت المعارك ورفعت المتاريس وعمرت المناطق المدمّرة، لكن متاريس النفوس وحواجز الأديان والطوائف ما زالت تنتصب وترتفع، وما زال طيف الحرب يلاحق اللبنانيين في حياتهم ويومياتهم واقتصادهم، وما زالت عقلية الميليشيا تتحكم بالعباد وبمفاصل الدولة والمجتمع. أي سلام كسبناه منذ وقف الأعمال العسكرية وأي بلد بنيناه؟ ماذا فعلنا وشبح الحرب يطل من عند كل مفترق وعند أي هزة ربطاً بكل حوادث الإقليم الجاثم على ألف قنبلة وقنبلة موقوتة؟

لقد أعطينا بلداً لم نحافظ عليه، مزّقناه بحروبنا، حتى لوكانت في بعض وجوهها حروب الآخرين على أرضنا، تذابحنا كرمى لعيون الأصدقاء والأشقاء... والأعداء. سددنا الفواتير عن الجميع من دمائنا وأرزاقنا وعمراننا ومستقبلنا ومستقبل أبنائنا، وانتهينا جميعاً مستسلمين مهزومين مكبلين بلا إرادة وبلا سيادة.

انتهت الحرب وظننا أننا حصلنا على بلد، لكن الواقع كان غير ذلك، خرجت قوى ودخلت قوى أخرى، تلاشت أحزاب وبرزت أخرى، مات زعماء وخلفهم أولادهم، تغيرت الوقائع في الإقليم فتغيرت عندنا. اتفقت القوى العالمية والإقليمية وتداولتنا في سوق الأسهم صعوداً وهبوطاً. كالبيادق في لعبة الشطرنج كنا، او كالطابة في لعبة كرة القدم تشوطها الأرجل. كنا كومبارس في مسرحية، يلبسوننا الطرابيش ويجلسوننا في خلفية المسرح، وعندما تتطور الحوادث يبدّلون الطرابيش على رؤوسنا. حكمنا ضباط الاستخبارات "بالصرماية". في السياسة والأمن والاقتصاد والإدارة والانتخابات ... وفي حياتنا اليومية العائلية أحياناً.

لم نبن دولة، وإن حاول بعضهم ذلك بخجل، ثلاثون سنة مرت على توقف لغة الرصاص والانفجارات، نصفها تحت الوصاية السورية ونصفها بعد عودة السوريين الى بلدهم عام 2005، وخلال هاتين الفترتين ماذا أنجزنا؟

لم نتفق يوماً على تشكيل حكومة، ففي أيام السوريين كانوا يقومون بالمهمة المتعذرة علينا وبعدهم أصبحنا بحاجة الى تدخل الكرة الأرضية لنشكل حكومة، لم نبن اقتصاداً ولم نقم إدارة حقيقية....

بعد الحرب سلمنا البلد للميليشيات، طيّفنا السياسة والإدارة والتعليم والاقتصاد والأخلاق والقيم والمفاهيم. ارتضينا بالمغانم المادية الشخصية ولو على حساب البلد، ودفعنا بدل كلفة الإعمارأضعافاً مضاعفة ثمناً لترضيات ومساومات. رهنّا كل شيء وسلمنا أرواحنا للتجار والمرابين ومختلسي المال العام وسماسرة المشاريع والتعهدات والمقاولين الصريحين والمقنعين.

خرج السوريون أو أخرجوا، لا فرق، وتسلّمنا البلد وصرنا نهتف "حرية سيادة استقلال"، فلا حرية نلنا ولا سيادة حصلنا ولا استقلال أنجزنا.

صحيح أننا تسلّمنا بعد الحرب بقايا وطن، لكننا بدل أن نرتق الثوب مزقناه إرباً إرباً ولم نستطع أن نخيط غيره، فأصبحنا عرايا بلا ثوب. نحن نبحث عن وطن فلا نجده.

نحن لا نستطيع أن نؤلف حكومة وحدنا. لا نستطيع أن نوقف سارقاً. لا نستطيع أن نعين مأمور أحراج. نحن لا نستطيع أن نتلافى انفجاراً مدمراً متوقعاً في المرفأ ولا أن نحاكم المتسبب به. لا نستطيع أن نمنع سرقة المواد الغذائية من أفواه الجائعين. لا نستطيع أن نؤمّن التيار الكهربائي. لا نستطيع... لا نستطيع...

16 عاماً على ما يحب البعض تسميته الاستقلال الثاني، وما زلنا أطفالاً في عالم السياسة والوطنية. ما زلنا مراهقين مهجوسين بوهم القوة والسيطرة والحرب. ما زالت عقدة الميليشيا تتحكم فينا بانتظار شرارة.

لم نبن مجتمعاً، نحن قبائل بدائية تلبس لبوس أحزاب وطوائف. نحن لسنا شعبا، بل شعوب متباغضة ينتظر بعضها فناء الآخر. لقد غيرتنا الحرب التي عبثا نحاول نسيانها. لم يربح أحد الحرب رغم شعور بعضهم بالربح وشعور غيرهم بالخسارة. كلنا طحنتنا الحرب بمآسيها ودمارها وبتركتها الثقيلة الوطأة وبما كرسته من قيم ومفاهيم مدمرة.

انتهت الحرب لكننا ما زلنا نعيش تداعياتها فماذا نحن منتظرون؟

الموت!