ستستطيع إيران استيعاب "الحادث الخطير" الذي تعرص له مفاعل نطنز النووي. وقد يمكن لهذا الحدث، الذي يؤخر تقدم إيران في برنامجها النووي، أن يربك "السكة الصحيحة" (وفق تعبير المندوب الروسي ميخائيل أوليانوف) التي وضعتها مفاوضات فيينا. بيد أن الأمر لن يغير من حقائق تدركها إيران كما كل الأطراف المعنية بالشأن الإيراني (وليس فقط الموقعين على الاتفاق النووي).

الحقيقة الأولى، وهذا ما ثبت مرة جديدة في حدث نطنز، أن إيران لن تمتلك القنبلة النووية ولن يسمح لها بذلك، حتى لو أدى الأمر إلى تجاوز العمليات الاستخبارية والسيبرانية والذهاب إلى حرب تدميرية شاملة.

الحقيقة الثانية، أن إيران تعرف ذلك جيداً وليس لديها أي أوهام في هذا الصدد، وتعرف أن أمن إسرائيل خط دولي أحمر (بما في ذلك لدى دول مثل الصين وروسيا). وإذ تناور طهران وتساوم وتبتز في هذا الشأن، فذلك من عدّة الشغل الضرورية لدفع الخصوم الكبار للاعتراف بها واقعاً إقليمياً ورقماً صعباً في المشهد الجيوستراتيحي الدولي.

الحقيقة الثالثة، أن مجموعة الـ(5+1) باتت تقارب إيران من زاوية امتلاك هذا البلد تقنيات صناعة قنبلة نووية حتى لو أن القوة الدولية القاهرة ستحول دون ذلك. أي أن المشكلة باتت في القدرة على الفعل وليس الفعل نفسه.

وفق تلك الحقائق يصبح هجوم نطنز، على خطورته، تفصيلاً عارضاً من ضمن تفاصيل سابقة ولاحقة نالت من هذا المفاعل، كما من أرشيف إيران النووي، كما من شخصيات مهمة وفاعلة في البرنامج النووي كان آخرها اغتيال من يلقب بأبي القنبلة النووية الإيرانية، محسن فخري زاده، في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.

تشبه الضربات النارية أو السيبرانية التي تعرض لها البرنامج النووي الإيراني خلال السنوات الأخيرة، تلك الضربات الموجعة التي لا تتوقف ضد المواقع الإيرانية في سوريا. تبني إيران حساباتها في الحالتين، ليس بحسابات الخسائر، بل بالمحصلة النهائية التي ستجنيها من برنامجها النووي وتواجدها فوق الأراضي السورية مهما كان ذلك مكلفاً، ذلك أن احتمالات الربح واردة، فيما لا أرباح في حال انضبط البرنامج النووي وزال الوجود الإيراني في سوريا. وهنا لا تهم الخسارة بالمفرق إذا ما كان الرهان على محاصيل الجملة.

يتأسس هذا المنطق على حقيقة أخرى استنتجتها طهران خلال العقود الأربعة من عمر الجمهورية الإسلامية. لا أحد يريد شنّ حرب ضد إيران. ولم يظهر خلال سنوات العداء الدموي المفتوح بين طهران و "الشياطين"، الكبرى والصغرى، و "قوى الاستكبار" أن ارتقى الرد الدولي إلى ذلك الشامل الذي راقبناه في أفغانستان والعراق ويوغوسلافيا.

قد تتضارب الاجتهادات حول سر تلك "البركة" التي حمت الجمهورية الإسلامية. ولا ريب أن الصدف التاريخية التي فجرتها اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وما تلاها، قد قللت من أخطار إيران لدى الخصوم، لا بل جعلها شريكة متعاونة في حرب واشنطن وحلفائها ضد بغداد وكابول، ثم حربها ضد "داعش"و"القاعدة".

ولئن أرادت طهران أن تتحول من خلال اتفاق فيينا لعام 2015 دولة إقليمية كبرى يعزز الاتفاق مع الكبار سطوتها في المنطقة، فإنها تعي أن ذلك الطموح اعتمد دوماً على قنبلتها النووية التي تلوِّح دوماً بالسعي إلى اقتنائها.

والحال أن للقنبلة النووية هيية معنوية لا يستهان بها، فيما أن قيمتها الحقيقية صفرية. لم تستخدم تلك القنبلة إلا مرة واحدة في التاريخ. باتت البلدان النووية، قبل غيرها، تعرف حجم الدمار الشامل الطويل الأمد الذي ترتكبه تلك القنبلة، إلى درجة شُل معها هذا السلاح منذ هيروشيما وناغازاكي (6 و 9 آب / أغسطس 1945). على هذا تدرك إيران أن قنبلتها المتخيلة مشلولة قبل صناعتها، وأن خصومها النوويين قادرون على تدميرها عدة مرات إذا ما أطل ذلك السلاح المفترض يوماً مهدداً لهم.

بيد أن إيران تبيع للعالم واقعاً أنها باتت دولة نووية قادرة على صنع القنبلة حتى لو كثرت "الحوادث" الرادعة التي تؤكد لطهران استحالة انتاجها. تسعى إيران لسوْق العالم نحو تقييدها، عبر القهر السيبراني والناري، أو باتفاق فيينا، أو حتى بملاحق وتحديثات جديدة تتدلل للقبول بها. بيد أن ما يهمها فعلاً هو عدم حرمانها من أدواتها الصاروخية الباليستية ومن قدراتها على إنتاج الميليشيات التي تسطو بها على العواصم الأربع الشهيرة.

لا تريد إيران أن تنافس الكبار، بل تريد أن تكون جزءاً منهم تشاركهم النفوذ في الشرق الأوسط. وفيما تحسن طهران التعامل مع العواصم البعيدة إلى درجة تواصلها معها في السرّ والعلن لاستيلاد مخلوق عام 2015، فإنها ستواصل ابتزاز العالم بقنبلة نووية مزعومة، ذلك أنها السبيل الوحيد الذي يبرر وجود نظام "الثورة" وديمومته، والسبيل أيضاً ليقر العالم بالأمر الواقع الذي صنعته وستستمر في صناعته داخل بلدان الجوار القريب والبعيد.

وفيما تشاغب إيران العالم بقنبلة نووية مفترضة، زرعت في بلدان المنطقة قنابل فعلية من نوع آخر طورت أضرارها منذ قيام جمهوريتها الإسلامية عام 1979. فاقمت تلك القنابل من الانفسام الأهلي والمذهبي في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وما زالت أخطارها الخبيثة تهدد السعودية ودول الخليج.

خطيئة القوى الكبرى أنها تقارب النظام الإيراني من واجهة قنبلته النووية، فقط، باعتبارها مفسدة إيران الوحيدة. والمفارقة أن طهران لاحظت انشغال تلك القوى بتلك الواجهة، فبالغت في تعظيم خطرها واقتراب ساعتها، على ما يفهم من الإعلان رسمياً عن رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60 في المئة.

ربما على العالم أن يراقب ملياً مآلات الجمهورية الإسلامية المتصدعة. تضعف إيران وتتجوف قواها حيال "حوادث" الداخل وعقوبات الخارج، وتتدحرج نحو الانهيار إذا ما غاب مرشدها. هذه نبوءة محمود أحمدي نجاد. غير أنها ستتمسك بالقنبلة الصفرية تدفع بها الرمق الأخير.