البعض يتذكر كبائن الهاتف التي انتشرت قبل عِدَة أعوام، وذلك بالتزامن مع ظهور «البيجر» وبداية «الجوال»، كانت هذه الكبائن تملأ الشوارع ويقف الناس – بمختلف أطيافهم - فيها طوابير، ربما البعض الآن لا يتذكر هذه الكبائن، بل إن وصف الخدمة لهم، قد يكون مُستغرباً ومُضحكاً، على رغم عدم تباعد السنين.

لا شك أنه بعد الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، ثم بداية الثورة المعلوماتية في بداية الألفية الثانية، أصبح التطور التقني ينتشر في شتى المجالات، ويحدث بشكل مُتسارع. من هذه المجالات «مجال المالية»، فظهور ما يُسمى بالتكنولوجيا المالية (Fintech ) - التي يمكن وصفها بأنها «صناعة مالية جديدة تطبق التكنولوجيا لتحسين الأنشطة المالية»- جعلها أكثر وصولاً للعامة.

خلال جائحة كورونا، نجد أن الكثير بدأ في التخلَي عن استخدام النقد، بل إن عمليات السحوبات النقدية قد قلت على مستوى العالم، ففي المملكة، انخفضت السحوبات النقدية بنسبة 20% في فبراير 2021م مقارنة بنفس الشهر من عام 2020، وتم التوجه إلى استخدام حلول الدفع المالية الرقمية (نقاط البيع)، حيث ارتفعت العمليات بنفس النسبة 20% في شهر فبراير 2021 مقارنة بنفس الشهر في عام 2020.

وحتى نستوعب هذا التطور النقدي المالي الذي وصلنا إليه، من الجيد قراءة كيف وصلنا إليه، فمن مقايضة سلعة بسلعة، ظهرت أسنان الحيتان، والقواقع، وبعض أنواع الخرز وسيطاً للتبادل التجاري في بعض الحضارات، ثم ظهرت المعادن غير المسكوكة فالمسكوكة، ومع التوسع في التجارة الخارجية في القرن الخامس عشر، واكتشاف العالم الجديد، فإن استخدام الذهب والفضة في إتمام الصفقات الكبيرة، أصبح صعباً، وبدأ التوسع في استخدام أشباه النقود كوسائط لتسوية المعاملات، ومن ذلك الفواتير وصكوك صرف كمية من المعادن، وهو ما نشأ عنه ـ ما يسمى بـ«خازن الذهب»، وهو الذي تودع عنده المعادن مقابل سند أو صك مديونية، ويقوم بموجبه الدائن باستخدامه في معاملاته، ومع مُضي الوقت صار المتعاملون يتداولون السندات والصكوك ولا يذهبون للخازن إلا نادراً.

شعرت الحكومات بالأثر الاقتصادي الخطير لعمليات الإصدار، لذا قام المشرعون في العديد من الدول بقصر عملية الإصدار على بنك واحد – البنك المركزي - يخضع للإشراف الحكومي، وخرجت النقود الورقية التي صدرت في أوائل القرن الثامن عشر، تحمل على ظهرها جملة تتعهد فيها الهيئة المُصدرة لها بالوفاء بالقيمة الحقيقية للنقد وتحويل قيمتها إلى ذهب عند الطلب.

لقد كانت اتفاقية «بريتون وودز» عام 1944م - والتي أتت بعد التحول من قاعدة الذهب وقاعدة احتياطي الذهب– التي حددت أن تقوم كل دولة بتحديد سعر صرف لعملتها مقابل الذهب (+-1%)، بمثابة نقلة جديدة في النظام النقدي العالمي، وحّل الدولار الأمريكي بدلاً عن الجنية الإسترليني.

ثم كان انهيار نظام «بريتون وودز» وبدء التحول من السياسات الكينزية إلى سياسات النقوديين عام 1971م حينما أعلنت الولايات المتحدة توقف قابلية الدولار الأميركي للتحول إلى الذهب، ثم كان هناك نقلة كبرى في عولمة العملة النقدية بظهور اليورو عام 1999م، والذي يُمثل أول عملة أوروبية موحدة.

بعد الأزمة المالية 2008م خرجت للعالم «البيتكوين»، وهي عُملة مُشفرة مُعتمدة على تقنية البلوك شين (Blockchain)، هذه العُملات لا تخضع لسلطات البنوك المركزية للدول، ولها عدد مُعين لا يمكن تجاوزه وفقاً للخوارزميات - بينما العملات النقدية يمكن الطباعة منها كما تشأ البنك المركزي- وخرجت عدّة عُملات مُشفرة، سأكتب عنها لاحقاً لتبيين نشأتها، ومحاولة لقراءة مستقبلها ومستقبلنا.

  • نقطة آخر السطر، قد يكون - في المستقبل القريب - منظر آلة أجهزة الصرف الآلي والبنوك في الشوارع مشابهاً لكبائن الهاتف في وقت مضى.