تتداخل المعارك الانتخابية في إيران مع المفاوضات النووية في فيينا ويتسابق على وقعها احتمالا الاختراق السلمي والمواجهة العسكرية. الهجوم الذي استهدف منشأة نطنز النووية، ويُعتَقد أن إسرائيل وراءه، أثار القلق على مصير المفاوضات حول مستقبل الاتفاق النووي JCPOA بين الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وبين الجمهورية الإسلامية الإيرانية. إنما الرد الإيراني على مستوى مرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي أفاد بأن الحاجة الى رفع العقوبات لها الأولوية على حاجة الانتقام لمفاجأة نطنز، مع الاحتفاظ بحق الرد. وهذه ليست المرة الأولى التي تبتلع القيادة الإيرانية فيها ريقها لتتوعّد وتؤجّل التنفيذ، فهي فعلت ذلك إثر قتل قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني السنة الماضية.

نوعيّة وكيفيّة وحجم وتوقيت تنفيذ التوعّد بالانتقام لـ"نطنز" سيحدّد معالم الانتخابات والمفاوضات وسيرسم مصير معادلة الحرب والسلم في الأشهر القليلة المقبلة. فإذا قررت القيادات الإيرانية الانتقام من إسرائيل، السؤال الذي يطرح نفسه هو هل الانتقام سيكون مباشراً وثنائياً حصراً، أو أنه سيتعمّد توريط دول أخرى عبر الحروب بالنيابة وفي مقدمها عبر "حزب الله" في لبنان. أما إذا قرأ النظام في طهران المشهد التفاوضي في أنه يخدمه أكثر وأفضل إذا تراجع عن التوعّد والانتقام بمختلف أوجهه فإن إمكان تحقيق الصفقة الكبرى Grand bargain وارد بالرغم من التوتّر العارم بين القوى الإقليمية والدولية على السواء.

استئناف المفاوضات حول الاتفاق النووي وسط سرّيّة مكبّلة، في أعقاب حدث نطنز، له دلالات عديدة من بينها أن الحديث الأميركي - الإيراني، حتى ولو كان غير مباشر أو عبر قنوات سريّة، لم يتوقف أو ينقطع بالرغم من الشكوك الإيرانية في أن إدارة بايدن أُحيطت عِلماً بالعملية العسكرية الإسرائيلية على موقع تخصيب اليورانيوم الإيراني قبل تنفيذ العملية التي تصفها إيران بأنها إرهاب نوويّ.

الأهم لدى الطرفين هو التفاهم على بنود إحياء الاتفاق النووي. بطبيعة الحال، يرافق الاصطفافات posturing التفاوضية رفع السقف وشدّ الحبال عندما تكون المفاوضات بمستوى أهمية تقييد قدرات إيران النووية وبأهمية رفع العقوبات الاقتصادية المدمِّرة لمشاريع النظام في طهران. لذلك يتحدّث الطرفان الآن عن "التزامن" بين الأمرين بدلاً من حديث الشروط المسبقة على نسق: مَن أولاً ولأيٍّ الأولوية.

وتيرة المفاوضات النووية وفحواها سيساهمان في قرارات مرشد الجمهورية إما لجهة إطلاق العنان لـ"الحرس الثوري" الإيراني للانتقام اقليمياً وللانقلاب الكامل على ما يسمى بقوى الاعتدال في الانتخابات الرئاسية الإيرانية المزمع إجراؤها في حزيران (يونيو) المقبل، أو لجهة تعويم قوى الاعتدال لتكون مرّةً أخرى الغطاء الضروري عالمياً للنظام ولمشاريعه الداخلية والإقليمية.

ما تنقله المصادر المقرّبة من تفكير "الحرس الثوري" هو أنه ينوي الانتقام ويفكّر في خيارات بينها: توسيع ضرب السفن الإسرائيلية في المياه الإقليمية. القيام بهجوم سيبراني cyber على أنظمة الدفاع الإسرائيلي. شن عمليات عسكرية عبر "حزب الله" من جنوب لبنان الى الداخل الإسرائيلي. استهداف سفارات إسرائيلية.

تقول هذه المصادر إن "الحرس الثوري" يعتبر الهجوم على نطنز إعتداءً حربياً Act of aggression لا يمكن أن يمرّ بلا ردّ. طهران أعلنت عزمها رفع مستوى تخصيب اليورانيوم من 20 الى 60 في المئة، وربما الى نسبة 90 في المئة إذا فشلت المفاوضات. هذا يعني أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية سيكون لديها قدرات نووية جاهزة للتفعيل عسكرياً.

إذا تجسّد هذا التهديد في إجراءات فعليّة، فإن شبح الحرب بدوره سيتجسّد بمواجهات عسكرية. عندئذ، لن تكون إسرائيل وحدها في صدارة المواجهة وإنما ستضطر إدارة بايدن للالتحاق لأن الولايات المتحدة لن تتمكّن من أن تقف متفرّجة على امتلاك إيران السلاح النووي. أما إذا وقع الخيار على تفعيل جبهة لبنان في معادلة الحرب بالنيابة، لا الولايات المتحدة ولا روسيا ولا الصين ولا الدول الأوروبية الثلاث ستدخل طرفاً أو تتدخّل كثيراً. فليس لتوريط لبنان أولوية لدى أيٍّ من هذه الدول، بل بعضها سيغضّ النظر وكأنه لم يكن يدري مسبقاً بخطط الانتقام عبر البوابة اللبنانية، مثل روسيا.

روسيا تنظر الى عملية نطنز من زاوية انتهاك إسرائيل للتفاهمات التي سعت موسكو لصقلها والقائمة على قاعدة اللااستفزاز. رأيها أن هذا الاستفزاز يقيّد أياديها مع إيران ويجعلها غير قادرة على تقييد أيادي طهران. وبحسب المصادر، سمع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عند زيارته طهران أن "حزب الله" قد يكون السلاح الإيراني الضروري في حلقة الرد والانتقام لنطنز. وبحسب هذه المصادر، أبلغت موسكو الى الرئيس المكلف سعد الحريري رأيها بضرورة أن يغضّ النظر عن "حزب الله" إذا قام بعمليات المواجهة مع إسرائيل نيابة عن إيران.

موسكو تريد احتواء التوتر الإيراني - الإسرائيلي لأنها تريد الحفاظ على الوساطة التي تسعى لإبرامها بينهما، لكنها في هذا المنعطف بالذات عازمة على عدم تعقيد علاقاتها مع إيران، ولذلك تتفهم أي قرار أو خيار تتخذه طهران. تحاول الدبلوماسية الروسية إقناع القيادة الإيرانية ألاّ تنفّذ التهديدات بزيادة نسبة تخصيب اليورانيوم لأن ذلك سيقضي على مفاوضات فيينا وعلى استعداد الولايات المتحدة لرفع العقوبات جزئياً أو كليّاً. موسكو لا تريد انهيار هذه المفاوضات، تريد التأثير فيها جذرياً، لكنها لا تريد انهيارها لأن المسألة نووية وجديّة وخطيرة.

الصين غير مهتمة في هذا المنعطف بالتصعيد وعواقبه لأنها تعتبر أن المشكلة، مشكلة روسية وأوروبية وليست مشكلة صينية. أوروبا تخاف وتخاف كثيراً من انهيار مفاوضات فيينا لأنها تولي كامل الأولوية للمسألة النووية وتكاد لا تبالي لو كان ثمن إنجاز الاختراق في الاتفاق النووي يتطلّب عمليات انتقامية تأتي في سياق تعزيز الموقف التفاوضي الإيراني - حرباً بالنيابة إن كانت عبر توريط لبنان أو هجوماً على سفن إسرائيلية. ما يهمها هو نسبة تخصيب اليورانيوم ونجاح المفاوضات لإحياء الاتفاق النووي.

إذا كانت التهدئة سيّدة الساحة في هذا المنعطف، ستتقدّم القيادة الإيرانية بمبادرات تمكّنها من توفير غطاء الحوار والاعتدال والانفتاح كما سبق أن فعلت في السابق. عندئذ تكون فرص فوز الاعتدال في الانتخابات واردة لأن التعامل مع المتشدّدين في السلطة بصورة مباشرة، بالذات مع "الحرس الثوريط الإيراني، لن يكون ممكناً إذا وقعت التفاهمات. بكلام آخر، يبقى "الحرس الثوري" متحكّماً بالسياسات الخارجية لكنه يرضى بقناع الاعتدال الذي يوفّره أمثال الرئيس حسن روحاني أو وزير الخارجية محمد جواد ظريف.

ثم إن العلاقات بين الدول الراعية للاتفاق النووي مع إيران لها أثرها وتأثيرها في مفاوضات فيينا. العلاقة، مثلاً، بين إدارة بايدن والكرملين تزداد توتّراً على وقع العقوبات وطرد الدبلوماسيين بالرغم من المخابرة الهاتفية التي أجراها الرئيس جو بايدن مع نظيره فلاديمير بوتين والتي دعاه فيها الى قمة أميركية - روسية حوالى شهر حزيران (يونيو) أو تموز (يوليو) المقبلين.

فرض العقوبات على سندات الخزانة الروسية، مثلاً، هو عبارة عن حرب اقتصادية مباشرة من وجهة نظر موسكو لأن هذه العقوبات تُضَاعف الديون الداخلية، وتُقفل الأبواب أمام العملة الصعبة، وتعقّد التداول المالي مع أوروبا وكندا واليابان. هذه العقوبات أتت بتهمة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية وشن الهجمات السيبرانية. الكرملين غاضب جداً من العقوبات الأميركية وطرد الدبلوماسيين الروس وهو بدوره دخل حلقة الانتقام.

ساحة هذا الانتقام تشمل الساحة الإيرانية، تفاوضياً في فيينا، وكذلك من خلال ضرب العقوبات بعرض الحائط وبيع السلاح لإيران.

الرئيس بوتين يشكّك بنوايا الرئيس بايدن في دعوته للّقاء. الحلقة المقرّبة من سيّد الكرملين تنظر الى تلك الدعوة بأنها استباقية وخبيثة في آن على أساس أن وراءها احتواء عزم بوتين على إلقاء خطاب معادٍ لإدارة بايدن يوم الأربعاء في 21 الشهر الجاري عندما يلقي خطاب حال البلاد. رأي هذه الحلقة أن بايدن أراد زجّ بوتين في الزاوية أيضاً في قمة تغيير المناخ التي تُعَدّ انتصاراً للرئيس الأميركي وجزءاً من حملة إبراز تنفيذ وعوده الانتخابية. ما سيحدث في العلاقة الثنائية التي توتّرت منذ أن وَصَف الرئيس بايدن الرئيس بوتين أنه "قاتل" سيؤثر في علاقات كل منهما بملفاته الإقليمية الممتدة من أوكرانيا الى إيران. فللتهدئة أصولها كما للانتقام.

في هذا المنعطف، إن الرهان على الانتقام أو التهدئة أو الصفقة الكبرى ليس مكتملاً لأنه بين طيّات المفاوضات والانتخابات.