تتحدث بعض المنابر الاقتصادية والثقافية في هذه الأيام عن مجموعة من المؤشرات التي تشير إلى قرب أفول الحضارة الغربية. والواقع أن نظرية التحولات التاريخية تراهن بأن للحضارات بدايات ونهايات، وإذا تصفحنا التاريخ الإسلامي نلاحظ أن بداية الحضارة الإسلامية بدأت مع نزول الرسالة المحمدية على سيد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم- فعصر الخلفاء الراشدين، ثم العصر الأموي، ثم أخذت الحضارة الإسلامية تعيش نهاياتها في العصر العباسي. ونلاحظ حاليا ونحن نرمق واقع الحضارة الغربية بأن هناك مؤشرات واضحة تلمح إلى أن العالم يعيش المراحل النهائية للحضارة الغربية.
ولعل أهم المؤشرات التي يكثر الكلام عنها في الأوساط الاقتصادية في هذه الأيام هو التقدم الكبير الذي تحققه الصين اقتصاديا على الولايات المتحدة، ما تسبب في صراع عنيف بين القطبين الكبيرين عالميا في مجال الاقتصاد. وإضافة إلى التقدم اللافت الذي حققته الصين في معدلات زيادة الناتج القومي الإجمالي على الولايات المتحدة، هناك عديد من العناوين التي يشير إليها كبار المفكرين كدلالات على قرب انحسار الحضارة الغربية، ونذكر ـ على سبيل المثال ـ غياب المثل العليا في المجتمعات الغربية، وغياب العدالة الاجتماعية، ولعل حادثة مقتل جورج فلويد في الشارع الأمريكي تؤكد العنصرية المقيتة وانهيار القيم في المجتمعات الأمريكية، وتسجل في المجتمع الغربي بصورة عامة زيادة ملحوظة في معدلات انتشار الجرائم والمخدرات وغسيل الأموال، إضافة إلى ذلك فإن بعض دول الاتحاد الأوروبي تلمح إلى أن بعض المشكلات الاقتصادية التي تعانيها جاءت بسبب انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وبالأمس القريب تعرضت فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وقبلها اليونان لمشكلات اقتصادية مدمرة، وقال مسؤولون في هذه الدول، إن دولهم تعرضت لمجموعة مشكلات اقتصادية بسبب انضمامها إلى الاتحاد، يضاف إلى ذلك أن خروج بريطانيا من الاتحاد شجع بعض الدول إلى التصريح بأن قضية خروج بعض الدول من الاتحاد مطروحة في أجندة هذه الدول ضمن قضاياها الوطنية الملحة، وهذا يعني أن اقتصادات القارة العجوز آخذة في التدهور. ويبدو واضحا أن منظومة الاتحاد الأوروبي، وكذلك الولايات المتحدة اللذين يمثلان الركن الرئيس في الحضارة الغربية بدأت تعاني الوهن والضعف. كذلك من الأشياء اللافتة في أداء هذه الدول، وبالذات الولايات المتحدة أنها لم تنجح كدولة قائدة "سوبر بور" في إحلال السلام والاستقرار في العالم، ولم تقم بأهم وظائفها وهي تجنيب مناطق حساسة ومهمة في العالم من التورط في الحروب الإقليمية أو الحروب الأهلية والطائفية التي تؤثر في الأمن والسلم الدوليين. والحقيقة أن قضية سقوط الحضارة الغربية بدأت تتصدر القضايا المهمة في منصات الإعلام الغربي، ومراكز الأبحاث، ومنابر المثقفين في كل عواصم العالم المتقدم. ونذكر على سبيل المثال أن أرنولد توينبي أفرد في موسوعته: "دراسة في التاريخ" مجلدا كاملا عن بدايات سقوط الحضارة الغربية من خلال نظريته الشهيرة: "التحدي والاستجابة"، وألمح توينبي إلى أن الغرب بدأ ينزل من سدة الحضارة الإنسانية ويعجز عن القيام بمهام القيادة للجنس البشري، وأنه فقد السيطرة على إدارة الكون فوق كوكب الأرض، وقال توينبي، إن التحديات التي تتعرض لها الحضارة الغربية كبيرة جدا ولن نستطيع مواجهتها.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن الألماني أوزوالد شبنجلر أصدر كتابه الموسوم بـ"سقوط الغرب"، وعدد في كتابه مجموعة كبيرة من الأسباب التي عدها نتائج موصلة إلى غروب شمس الحضارة الغربية. كذلك فإن برنارد لويس وصامويل هانتجتون تحدثا عن نظرية صدام الحضارات، وأشارا إلى ضرورة أن يستعد الغرب للصدام مع الحضارة الصينية والحضارة الإسلامية، وطالب لويس الغرب بالعودة إلى احتلال واستعمار العالم الإسلامي وحكمه بالحديد والنار قبل أن يقوم المسلمون بتدمير الحضارة الغربية.
أما بول كنيدي، أستاذ العلوم السياسية في الجامعات الأمريكية فقد أصدر كتابا في 1987 أسماه: "صعود وسقوط القوى العظمى" وعدد في كتابه مجموعة أسباب يرى أنها كفيلة بتقويض الحضارة الغربية، ويجادل كنيدي بأن أهم أسباب سقوط الدول العظمى هو الحروب التي تفتك بالاقتصاد، وتتسبب في انتشار الوهن والضعف في عروق وشرايين الدول المتحاربة، ويستنتج بول كنيدي بأن الدول الآفلة هي الدول التي فضلت آلة الحرب والبندقية على الزبدة والخبز والملوخية.
ومع مطلع القرن الـ20 تنبأ بول كنيدي بغروب شمس الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، كذلك تنبأ بقرب تفكك الاتحاد الأوروبي، وفي الوقت نفسه توقع صعود أسهم الصين واليابان. وأكد بول كنيدي، مفكر العلاقات الدولية وعلوم السياسة الأمريكي أن سبب صعود قوة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية هو خروجها سليمة معافاة من هذه الحرب المدمرة، وأن سبب غروب شمس المملكة المتحدة هو أنها خرجت من الحرب العالمية الثانية بعد أن فقدت قوتها وأملاكها التي كانت لا تغرب الشمس عنها.
وفي السياق نفسه، فإن من أسباب تراجع الولايات المتحدة في العصر الحديث هو أنها تورطت في سلسلة حروب في العراق وأفغانستان، وقبلها التدخل مع إسرائيل في حروبها الشاسعة مع الدول العربية، ما تسبب في سلسلة تراجعات في الناتج القومي الإجمالي، وفي أعوام قليلة تحولت الولايات المتحدة من أكبر دائن إلى أكبر مدين في العالم! وها هما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يستعدان لتسليم راية الحضارة الغربية إلى الصين وإلى دول شرق آسيا، وحال العالم كله يردد: "وتلك الأيام نداولها بين الناس".