زيارة الوفد الأميركي الرفيع الذي يقوده مُنسّق الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، بريت ماغرك، الى السعودية والإمارات ومصر والأردن هذا الأسبوع لها دلالات مثيرة للفضول، سواء كانت تطمينية فقط أو تنسيقية في العمق. إنها تأتي في الوقت الذي تستمر فيه المحادثات السعودية - الإيرانية الى جولة رابعة وربما خامسة وسط سرّيّة على الصعيد الإعلامي إنما ليس ببعد من دول فاعلة في الخليج مثل الإمارات المقرَّبة من هذه المحادثات. فشيءٌ ما يحدث لعلّه يكون إيجابياً ويشكّل نقلةً نوعية في علاقات الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع جيرتها المباشرة ومع الدول الكبرى بالذات مع الولايات المتحدة الأميركية.

محادثات فيينا حول مستقبل الاتفاق النووي JCPOA مع إيران تتجه نحو التوافق على رفع العقوبات تدريجيّاً عن طهران - النفطية أولاً - ما قد يسجّل اختراقاً سعت وراءه إدارة بايدن بكامل جهدها. المؤشّرات تشير الى رضوخ الدول الست التي تتفاوض مع إيران في فيينا لشروط طهران باستثناء واستبعاد إدخال مسألة الصواريخ ومسألة السلوك الإيراني الإقليمي الى المفاوضات النووية. هذا يفسّر إسراع إدارة بايدن الى إيفاد وفد رفيع لطمأنة الحلفاء العرب أنهم ليسوا خارج الصفقة مع أنهم ليسوا داخل المفاوضات، وأنهم شريك موازٍ بالرغم من كونهم خارج الاتفاق، وأنهم تحت نوعٍ من الحماية الأميركية بالرغم من رضوخ الفريق المفاوض لشروط استثناء الحديث عن النشاطات الإيرانية في الجغرافيا العربية واستبعادها الى حين آخر ليس مُلزِماً ولا يقترن "بأسنان" الضغوط والعقوبات.

لعلّها زيارة ارضائية "وجبر خاطر" اقترنت بتسريبات لكلام وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف تذمَّر فيها من هيمنة "الحرس الثوري" على صنع السياسة الخارجية الإيرانية وكأنه يبرّئ نفسه ووزارته ورئيسه حسن روحاني وما يسمّى بالمعتدلين في النظام. قد يكون كلام ظريف، وقصد الذين سرَّبوه، المراوغة لإعطاء الانطباع ببراءة وزارة الخارجية من السلوك الإقليمي الإيراني الذي يقوم على التدخّل العسكري والتخريب والاستيلاء على خزانة الدول مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن بإلغاءٍ كامل لسيادتها. قد يكون بإيحاءٍ من وبموافقة "الحرس الثوري" كوسيلة وأداة لسحر وإقناع وفد بايدن المفاوض بحسن النوايا الإيرانية - مرحليّاً، الى حين ضمان رفع العقوبات.

صدق هذه المواقف، إذا كانت صادقة، يعني فوز قوى الاعتدال على القوى التي يدعمها مرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي، وهذا مُستبعَد. لعلّه يعني موافقة هذه القوى على "عدم الفوز" الرسمي في الانتخابات الإيرانية تجنّباً لإحراج فريق بايدن وتقييد أياديه.

المهم أنه ليس هناك حالياً أية خريطة طريق متلازمة مع المفاوضات النووية تتطرّق الى السلوك الإيراني الإقليمي بغض النظر إن كان طبقاً لتعليمات "الحرس الثوري" أو وفقاً لمزاعم وزير الخارجية. ليس هناك مفاوضات متوازية حول مسألة الصواريخ الباليستية والصواريخ الدقيقة التي تصنّعها إيران في بلادها وخارجها. ليس هناك على طاولة المفاوضات التي تشارك فيها الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا أي بندٍ حول مصير اليمن بالرغم من التيقّن من تصدير طهران الأسلحة الى الحوثيين، أو مصير العراق الواقع تحت الهيمنة الإيرانية على أمواله وسيادته، أو مصير لبنان الذي اقتنصَه "الحرس الثوري" وأوكل مصيره الى "حزب الله"، أو سوريا التي صادر "الحرس الثوري" فيها قرار الدولة.

فبأي طمأنة يصل الوفد الأميركي الذي يقوده الدبلوماسي القدير، والصديق، بريت ماغرك في زيارته الى الدول العربية؟ وما علاقة تعدّد وتكرار جولات المبعوث الأميركي المكلّف ملف اليمن، تيم ليندركينغ، وآخرها الى السعودية وعُمان، بتنسيق مع المبعوث الأممي مارتن غريفيتس؟

في البدء، من المهم التوقف عند المحادثات السعودية - الإيرانية الثنائية والتي شارك في ترتيبها أكثر من طرف ودولة يقال إنها تشمل روسيا وفرنسا والإمارات والعراق. واضح وبديهي أن يكون اليمن في أعلى قائمة الأولويات السعودية لأن الأمر يتعلق بالأمن القومي السعودي، ولأن "الحرس الثوري" يقوم بإمداد الحوثيين بالسلاح والرجال لزعزعة استقرار السعودية، ولأن القيادة السعودية على مستوى وليّ العهد اقتنعت أن مصلحتها تقتضي بذل قصارى الجهد لإنهاء حرب اليمن - وهَكذا تفعل.

إذاً، لقد وُضِعَ ملف اليمن على سكّة المفاوضات الثنائية بين الرياض وطهران، بمساهمةٍ ضئيلة أميركية وأمميّة، لكنّه أُخرِج عمليّاً من حيث كان يجب أن يكون لو لم ترضخ الدول الست لإملاء طهران باستبعاد مشاريعها الإقليمية عن المفاوضات النووية.

فلقد وَقع انقلاب الرئيس جو بايدن على سلفه الرئيس دونالد ترامب الذي كان اشترط أن تشمل المفاوضات مسألة الصواريخ ومسألة السلوك الإقليمي الإيراني قبل رفع العقوبات - فانتصر "الحرس الثوري". فلا عقوبات ستطاوله أو تطاول صواريخه، ولا هو مضطر أو مُجبر على تغيير أو تعديل عقيدته الثيوقراطية، ولا هناك ما سيكبّل عزمه على تنفيذ مشروعه الإقليمي التوسّعي الممتد من اليمن الى العراق وسوريا ولبنان.

بالرغم من ذلك، تبدو المحادثات السعودية - الإيرانية بحد ذاتها صحيّة وضرورية وعسى أن تتوصّل الى نقلة جذرية في علاقة البلدين المهميّن والى التفاهم على إنهاء حرب اليمن، كأولوية طبيعية. إنما ماذا عن الدور السعودي الإقليمي، وماذا عن الدور الإيراني الإقليمي، بما يتعدى اليمن؟

بحسب المعلومات المتوفَّرة حتى الآن، إن السعودية جاهزة لمساعدة إيران في كسر طوق عزلها، إقليمياً ودولياً، والتغلّب على المصاعب الذي يسبّبها لها هذا العزل. وبحسب المصادر، إن إيران متشوّقة جداً للتخلص من هذا الطوق واستعادة مكانتها.

إحدى المشاكل الأساسية تكمن في كيفية تحقيق الاستمرارية في المحادثات والتفاهمات إذا تعرقلت إحدى المحطات بالذات عند احدى أولويات "الحرس الثوري".

سوريا، مثلاً، مهمّة جداً لروسيا التي تقول إنها واحدة من الذين أدوا دوراً في تسهيل الحديث السعودي - الإيراني ليشمل النظام الأمني للخليج والشرق الأوسط الذي تعمل موسكو عليه. تريد روسيا أن يقع تفاهم سعودي - إيراني على مسائل تتعلق بسوريا، لكن جهودها وطموحاتها تصطدم بواقع سياسي لا يعجبها.

فبحسب المصادر، إن الرياض غير جاهزة أو مستعدّة لموافقة رأي وسَعِي موسكو وطهران وراء مباركة السعودية لبقاء بشار الأسد رئيساً لسوريا. إنما هذا أمر أساسي عند "الحرس الثوري" القائم على صنع السياسة الخارجية الإيرانية.

مثال آخر على صعوبة توصّل المحادثات الى تفاهمات يتعلق بمطلب إيراني لا تراجع فيه، تقول المصادر المُطّلِعة، وهو أنه يحق لها أن تكون لها يدٌ طليقة في سوريا ولبنان والعراق. هذا شرط يصعب جداً على الرياض البصم عليه. "الحرس الثوري" لن يتنازل عن امتلاك لبنان عبر "حزب الله" مهما كلّفه الأمر وما لم تجبره الولايات المتحدة على ذلك بإجراءات وأدوات حادّة - وحتى عندئذ، لن يتخلى بسهولة. "حزب الله" قد يكون أثمن ورقة لدى "الحرس الثوري"، وهو أكثر المسيئين للدول الخليجية العربية في رأي هذه الدول، وليس فقط مسيئاً للبنان واستقراره وسيادته. لذلك إنه عقدة في المباحثات السعودية - الإيرانية أمام إصرار طهران على رفع السعودية أياديها كليّاً عن لبنان وتركه ساحة مفتوحة أمام "الحرس الثوري" الإيراني.

أما إذا كان ما تردد حول طلب طهران مجرّد أن تسهّل الرياض تشكيل حكومة في لبنان صحيحاً، فإن الشيطان في التفاصيل. فما تريده إيران يبقى في فحواه حكومة في لبنان خاضعة لـ"حزب الله" ولطهران. قد تقرر الرياض أن اليمن أهم لها من لبنان، وقد يكون وارداً أن تستكمل عقابها للبنان بسبب إساءاته المتكررة، لكن قراراً كهذا سيكون مُكلِفاً على المدى البعيد لأن تسليم لبنان لإيران سيكون غلطة استراتيجية مكلفة للهوية العربية للبلد، كما للموقع وللنفوذ السعودي إقليمياً.

العراق مثال آخر على صعوبة التوصل الى تفاهمات سعودية - إيرانية ما دام "الحرس الثوري" يصرّ على أن العراق له. قد يرتاح العراق قليلاً إذا تم رفع العقوبات عن إيران، بموجب عمليّة فيينا، ما قد يريح قليلاً المصرف المركزي العراقي الذي يُستَنزف إيرانياً لخدمة مشاريع "الحرس الثوري" الإقليمية. إنما العراق، في نظر إيران باقٍ لها مهما كان.

بالرغم من كل ذلك، إن الحوار والمباحثات أمر جيد يجب تشجيعه اقليمياً ودولياً، إنما مع الحرص التام على دفع طهران الى العقلانيّة والكفّ عن اعتبارها الدول العربية مُلحقاً لها وملكاً لـ"الحرس الثوري" ولعقيدة النظام.

ما تحاول إدارة بايدن أن تبلّغه الى السعودية والإمارات ومصر والأردن هو أنها ليست إدارة أوباما التي استهترت بالدول العربية كليّاً عندما وقعت في هوس إبرام الاتفاق النووي مع إيران، مهما كان. الفريق المفاوض يكاد يكون ذاته في إدارة بايدن كما كان في إدارة أوباما. الفارق هو أن جو بايدن يريد إحاطة الدول العربية علماً بما يتّفق عليه مع إيران، ويريد أن يعطي إيران الانطباع أن الدول العربية حليفة إذا خطر في بال طهران المراوغة وإفشال الاتفاق.

هذا لا يكفي. ذلك أن تبنّي بايدن أسلوب المسارين المنفصلين المتتاليين - النووي أوّلاً، ثم لاحقاً الصواريخ والسلوك الإقليمي - يسلبه من أدوات التأثير عبر العقوبات، كما يعطي "الحرس الثوري" انتصاراً معنوياً وأموالاً لشراء السلاح واستكمال مشاريعه الصاروخية والتوسّعية.

فالطمأنة شيء، والسياسة العملية شيء آخر. وعليه، يجب على الدول التي تستقبل الوفد الأميركي الرفيع ألاّ تشكره على الالتفاتة المعنوية، بل أن تصرّ عليه أن يتقدّم بخريطة طريق مفصّلة، ببرامج زمنية وبأدوات، حول ماذا في الجعبة الأميركية في مسألة الصواريخ ومسألة مشاريع إيران التوسعية لقضم سيادة الدول العربية والاستيلاء على قراراتها المصيرية. عدا ذلك، لن تكون زيارة الطمأنة سوى عملية تجميلية لقرارات بشعة يبدو أنها تُصنَع الآن في فيينا.