إحدى أهم وأخطر المعضلات إنسانية التي تم مواجهتها عبر العصور الطويلة، هي كيف تتحول الأديان، وهي التي تنادي بأسمى القيم وأرقى المعاني، حينما يتم الحكم السياسي باسمها، إلى أداة لنشر العنف والطغيان والدم والقتل والحروب. وهذا ما جعل الكاتبة البريطانية الكبيرة كارين آرمسترونغ، وهي المتخصصة والمتعمقة في تاريخ الأديان العالمي، تطرح سؤالاً خطيراً في كتابها المهم «حقول الدم: الدين وتاريخ العنف» الذي استفسرت فيه بشكل واضح وصادم في آن بقولها «هل الأديان حقاً هي المصدر الحقيقي والفعلي للعنف والتطرف؟»، والمشهد العالمي الحالي يُظهر بشكل جلي وواضح أن الإنسان الذي وظفته الأديان كلها بمهمة نبيلة وعظيمة وسامية ألا وهي خلافة الله على الأرض والانشغال بإعمارها، حصلت له «لحظة انقسام تاريخية» ليبدأ التطبيق المزدوج والمختلف تماماً عن بعض لفكرة خلافة الله وإعمار الأرض. فهناك من سكن في جغرافية العالم الغربي لينشغل بالعلم والحقوق والتنمية والفنون، وأصبحت الدنيا تتسع له بقدر مساهماته وإنجازاته، وهناك من سكن جغرافية أخرى من العالم ليتحول مع الوقت إلى كائن مقهور وسلبي وبلا أي قيمة مضافة، وبالتالي استطاع مع حالته هذه أن يتحول من إنسان كرمه الله وأمر الملائكة بالسجود له إلى مواطن من الدرجة العاشرة يعيش مسحوقاً ومهموماً ينشغل بهم يومه وقوت يومه.
تحول هذا الكائن إلى النسخة العصرية من الأسطورة الإغريقية المعروفة «سيزيف» التي كانت تتحدث عن رجل انشغل طوال حياته في دفع الصخرة العظيمة من سفح الجبل إلى أعلاه لتهزمه في كل مرة وتعاود التدحرج إلى القاع ليعاود المحاولة تلو الأخرى مجدداً. وكانت من طبائع المنهزمين نفسياً أن يبحثوا حولهم لما قد يكون العنصر المساعد لتفريغ الشحنات السلبية الهائلة المتأججة بداخلهم، وكانت ضالتهم في الآراء الدينية التي تشير بأصابع الاتهام إلى الآخر، فيكون هو بالتالي كيس الملاكمة الملائم لتفريغ حالات الإحباط والقنوط واليأس الكامنة بداخلهم.
وليس هناك من داعٍ للتذكير بالثمن الباهظ الذي دفعه العالم العربي، ولا يزال، نتاج تبني خطاب ديني شديد التطرف، كان نتاجه ولادة أصولية إرهابية بأشكال مختلفة. ورغم التحذير المستمر عن خطورة التطرف والتحذير الذي لا يتوقف منه، وعدم الاكتراث بمقررات المؤتمرات، فإن الوضع بقي ملتهباً. في عام 1990 صدر إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام، الذي حملت المادة الأولى منه فكراً تقدمياً مستنيراً وقالت فيه: «إن البشر جميعاً أسرة واحدة جمعت بينهم العبودية لله والبنوة لآدم، وجميع الناس متساوون في أصل الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف والمسؤولية من دون تمييز بينهم بسبب العرق أو اللون أو اللغة أو الجنس أو المعتقد الديني أو الانتماء السياسي أو الوضع الاجتماعي، أو غير ذلك من الاعتبارات. وأن العقيدة الصحيحة هي الضمان لنمو هذه الكرامة على طريق تكامل الإنسان. وبأن الخلق كلهم عيال الله وأن أحبهم إليه أنفعهم لعياله، وأنه لا فضل لأحد منهم على الآخر إلا بالتقوى». ومع شديد الأسف بقيت هذه الكلمات الرائعة في الأرشيف والأدراج، ولم يتم تفعيلها بشكل حقيقي وملموس.
وللكاتب البريطاني المعروف فريد هاليداي، رأي في غاية الأهمية فيما يتعلق بالأصولية، فهو يقول إن «الحركات الأصولية كلها (بغض النظر عن منشئها ودينها) معادية للحداثة وللديمقراطية تعريفاً، بل إنها عين الافتقار إليهما. فالآخر عندها مرفوض تماماً ومبدئياً. وحين تتشابك الهويتان الدينية والإثنية في إحداها، يتكامل العداء للآخر حتى يصير أقرب إلى العنصري. يصح هذا في نظرة الهندوس واليهود المتعصبين إلى الإسلام، بقدر صحته في نظرة المسلمين والعرب المتعصبين إلى اليهود».
ليس الغرض من هذه الكلمات هو جلد مبرح للذات، ولن تكون قادرة على حسم مسألة حيرت البشرية منذ سنين طويلة، ولكنها محاولة جديدة لتسليط الضوء على خطر يتم استغلاله المرة تلو الأخرى، وفي كل مرة تكون النتائج فتاكة ومدمرة ودموية. يولد المرء في كل بقاع الدنيا مثقلاً بهم الماضي وأعبائه، وقد لا يكون من المبالغة القول إن أكثر الناس تحملاً لعبء فاتورة الماضي الثقيلة هم العرب أنفسهم حتى تحولوا اليوم إلى ما يمكن وصفه بأمة خارج التاريخ الحديث.
آن أوان تبني المستقبل بالقدر الذي تبنينا فيه الماضي.