قرار السعودية منع دخول إرساليات الخضراوات والفواكه اللبنانية إلى المملكة أو العبور من خلال أراضيها، أخيرا، جاء صدوره لضمان سلامة المحاصيل الزراعية اللبنانية من توظيفها لتهريب المخدرات كأحد التعبيرات عن حالة الاقتصاد اللبناني على أكثر من صعيد، فمن ناحية الظاهرة المتكررة تدل على استفحال الجريمة المنظمة من قبل جهات فاعلة في المنظومة السياسية والاقتصادية في لبنان، بالتالي تدل على درجة الفوضى التي وصلت إليها لبنان. ومن ناحية أخرى تساعد على تركيز العدسة على طبيعة وأصل الإشكالية الاقتصادية. ميدان الإشكالية في الاقتصاد السياسي لأن الأدوار الاقتصادية المعتادة في الحالة الطبيعية أصبحت تدار من منظار سياسي نفعي للقوى الفاعلة سياسيا وليس طبقا لمعادلة الإنتاج والمنافسة. غالبا تتراكم العيوب السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى أن تصل إلى مرحلة في العملة والتضخم تكشف المستور وغير المستور. انخفضت الليرة 86 في المائة منذ أن بدأت الأزمة، وارتفع التضخم 295 في المائة منذ الأزمة في نهاية 2019.
لأعوام طويلة استفاد لبنان من عدة عوامل، الأول الأسبقية التاريخية كبوابة لدول المنطقة تجاريا وتعليميا وثقافيا، وكذلك تحجيم دور الحكومة المركزية، ما سمح لقدر من المنافسة والحرية في ظل توافق مقبول وعدد سكان قليل، وأخيرا مصادفة تزامن الحرب الأهلية في السبعينيات مع ارتفاع مداخيل النفط في المنطقة، ما فوت الفرصة على لبنان "استفاد اللبنانيون كثيرا، لكن لم تستفد لبنان وبالتالي الانفصال بين الوطنية والمكاسب المادية". نهاية الحرب أوجدت حالة جديدة من ملامحها سيطرة طرف واحد على الساحة مدعوما خارجيا أصبح من القوة أن يكون مخلبا لإيران لتحقيق طموحاتها في المنطقة العربية، وبالتالي الحد من المنافسة وتعظيم الدور السياسي على حساب الاقتصاد، كذلك ارتفع عدد السكان على موارد قليلة، وأخيرا استفحل الدعم والفساد وتحويل المصالح للجهات الفاعلة سياسيا إلى حد توظيف القوة، مثل: سيطرة عصابة حزب الله وغيره على الأراضي الزراعية، وتصدير المخدرات لتمويل عملياته. الدعم المختطف سياسيا يقود حتما للفساد.
الدعم في لبنان يأخذ شكلا مباشرا للمستورد لأنه يحصل على سعر صرف للدولار من البنك المركزي يصل أحيانا إلى 88 في المائة أفضل من سعر السوق، وبالتالي الربح المضمون عال إلى حد بيع البضاعة المدعومة للخارج أحيانا وأحيانا تخزينها لمعرفة المستورد بالتضخم لبيعها مستقبلا. النتيجة شح البضائع الضرورية والمدعومة وتجفيف رصيد العملة الصلبة في البنك المركزي، بسبب نموذج يخدم القلة المتمكنة على حساب الأغلبية. أيضا من ملامح النموذج تزايد العجز والديون إلى حد إفلاس الحكومة حين لم تستطع تسديد مدفوعات السندات. وكذلك تشويه تسعير كل الخدمات والمنافع، لعل أهمها ما يواجه شركة الكهرباء من تحديات في تسعير وتهريب لا يمكنها من أي استثمار رأسمالي، وبالتالي نقص مزمن في الكهرباء.
رغم تعقيد التحدي إلا أنه ممكن إذا تم توافق يضع مصلحة لبنان فوق الاعتبارات الفئوية، خاصة توظيف لبنان كمنصة لإيران. ماليا لا بد من التخلص من سياسة الدعم من خلال أسعار صرف خاصة، واستبداله بسعر صرف واحد يعتمد على المتوافر فقط من العملة الصعبة حيث تكون الليرة مغطاة بالعملة الصعبة 100 في المائة، ما يكشف الصورة الحقيقية للدعم والعدالة وتوظيف الموارد. في هذه الحالة دعم الحكومة اللبنانية في شراء للوقت والفساد. طبيعة لبنان الاقتصادية والمالية والسياسية لا تمكنها من سياسة نقدية، لذلك لا بد أن تكون سياسة سعر صرف مثبت محور السياسة المالية لأعوام تسمح بدرجة من اليقين والثقة بالمنظومة، ومن ثم الأخذ بإصلاحات اقتصادية.