لا يزال الاشتباك بين مناصري التّجديد القائم على الفكرة الليبرالية ومناصري الاعتصام بالحاكمية الإلهية قائماً ومشتدّاً.

وبالرغم من وجود من يحاول تجسير التفاهم بين الفريقين، فإن ذلك لم يفلح لمّا تشدّد المعتصمون بالحاكمية ضدّ ما يؤسّس للحرية الليبرالية، ورفضهم لكلّ ما يتّصل بالفهم التجديدي للدّين، ولكلّ ما ليس مسنوداً بإجماع فقهاء الماضي.

ولم يدرك هؤلاء أن التجديد ضرورة تاريخية وحضارية، لأنّنا بإزاء مجتمعات تعدّدية دينياً وثقافياً وقومياً، تعيش ثورة رقمية مهولة لا ينفع معها التقوقع والتعصّب للفكرة الواحدة.

كما أنّ الاستناد إلى فكرة «دار الحرب» و«دار السّلم» سياسياً وجغرافياً، وإلى التمييز بين«المسلم» و«الذمّي» فيما يتعلّق بحقوق وواجبات المواطنة، لا تستقيم بالمرّة في عالم مختلف ليس عالم الأمس.

فإذا كانت القبيلة تعني تلك «الوحدة السياسية» التّي بموجبها يحصل زعماؤها على «تفويض دستوري» للحكم، فإنّ المجتمعات الحديثة تكنولوجيّاً تختلط فيها حساسيات اجتماعية متنوّعة مثل: الحزب والنّقابة والمجتمع المدني، وهي حساسيات جعلت من القبيلة مكوّناً واحداً لا غير، ولا يتمتّع بالسلطة المنفردة كما كان الأمر من قبل.

بمعنى أن هذه التركيبات الاجتماعية بما تثيره من صراعات داخلية وخارجية وتنافس دائم، لا صلة لها البتّة بمفهوم «دار السّلام» كمؤسسة تقليدية لها ضوابط ماضية، لأن مفهوم القانون في حلّ نّزاعات المجتمعات المعاصرة يختلف عن القانون نفسه الذي تُدار به «دار السّلم».

فالبرلمان مثلاً الذي يقوم على الصراع بين الأغلبية والأقليّة، يُعدّ نقيضاً آخر لقانون الإدارة الإسلامية التقليدية التّي يجب فيها مبدئياً إلغاء الصّراع وتحقيق إجماع الأمّة، لأنّ الهدف من القانون التقليدي كما يقول محمد حاج حمد هو «نفي الصّراعات» لا «تقنين الصّراعات».

إنّ الإشكال الكبير لدى بعض التيارات التوفيقية هو تشبّثها بمنح السلطة للأغلبية المسلمة مع تجسيدها وتمثيلها الشّامل لمختلف شرائح المجتمع وفئاته، التّي لا حقّ لها في أيّ سلطة سيّاسية باعتبار الأغلبية المسلمة هي وحدها من تجسّد حاكميتها للّه.

هذا يعني أن وصول هذه التّيارات إلى السّلطة عبر الانقلاب أو ما شابهه، هو إلغاء للتّعايش في ظلّ التعدد الثقافي والديني والسّياسي، وتحويل الصيغة البرلمانية من منظورها الديمقراطي إلى صيغة الشّورى في معناها العام لتطبيق القرارات التّي تتّفق مع السلطة السياسية الدينية، لذلك نلحظ أن المرجع السيّاسي المعاصر للحركات الدينية السياسية يخلو من بلورة أيّ أطروحة حول البديل الدستوري.

إنّ النّظام الدّستوري لا يعني الشّورى، لأنّه يُعنى بكيفية تمثيل فئات المجتمع المتعدّد في اتّخاد القرار وأن يكون هذا التّمثيل متكافئاً في إطار المجتمع الواحد على مستوى التراب القومي.

جوهر هذا النّظام تقنين الصّراع عبر مفهوم سيطرة الأغلبية على الأقلّية في إطار الدستور، أمّا تيّار الإسلام السياسي فإنّه يحاول خطأ السيطرة بمنطق الجماعة الشّبيه بمنطق الحرب الواحد.. إذن يبقى التّجديد الديني انطلاقاً من روح الإسلام الصّحيح مطلباً ملحّاً لدرء جهالة «المُتأسلمين».