لا يمكن التحكم في فكر الإنسان ووعيه وأحلامه وتطلعاته ارادياً، لكن يمكن تنفيذ العكس اذا ما ساد الطغيان السياسي على حرية الفرد تفكيراً وتعبيراً، بغاية شل الحركة الإنسانية، خصوصاً التي تحمل تهديداً على الأنظمة الهشة غير الكاملة الأركان ديموقراطياً.

تتصور كثير من الزعامات ذات الأفق الضيق تفكيراً أو المُغيب عمداً أو طوعياً، واهمة أن ما يُوجه تكراراً ومراراً من مفكرين ومحليين من نقد حصيف وتحليل موضوعي لانحرافات الأنظمة على أنه مجرد عواء صوتي وسلوكي، وهو خطأ سياسي فاحش.

في بعض الدول الصغيرة والكبيرة التي تقوم أنظمتها على التوارث بشتى الأساليب سواء العسكرية أو غيرها، قد يكون مبرراً إلى حد ما محدودية النشاط الذهني بسبب ظروف اجتماعية وتعليمية بدائية، بيد أن التحولات التي شهدها العالم من ثورات علمية وتطورات سياسية يفترض أن تُحفز على تطوير الذات، بصرف النظر عن طبيعتها، علمياً وسياسياً وثقافياً كبقية أفراد المجتمعات.

فمن غير المعقول التصديق ولو لوهلة من الزمن أن النضوج السياسي يختلف بنزعاته عند العامة، بينما مثل هذا النضوج الفكري متجمد عند الزعامات ومحيطها من مستشارين، الذين يعملون على نمط عمل خياطة الملابس وحياكتها خنوعاً لرغبات سياسية أنانية، لا صلة لها بالمصلحة العامة.

فالمصلحة العامة أو ما يعرف بالمصلحة العليا وجهاً واحداً، لمصطلح رائج في التفسير والتبرير للانحرافات السياسية، واستغلال ثروات الشعوب في أغراض غير وطنية الهدف، بل بغاية تسميم المجتمعات، لا سيما القوى الناضجة فكرياً وسياسياً، التي كثيراً ما تُصنف بالمعارضة، وهو تصنيف انتقائي في تقسيم فئات المجتمع وشرائحه، بل تصفية القوى الإصلاحية واستبدال بها قوى موالية للحكومات وداعمة لشيوع الغوغائية في المجتمع.

لذلك في مثل هذه المجتمعات والدول تنتشر حالات الاكتئاب بين الصفوف الشعبية والانعزال عن المجتمع والنظام السياسي ككل، هرباً وفراراً من الإرهاب السياسي وتفضيل العزلة والاغتراب عن الواقعين الوطني والقومي، بحثاً عن ملاذ للإقامة في دول أخرى، بغية استكشاف الذات البشرية، من دون قيود وضمن مناخ يُتيح الحركة الإنسانية والنشاط الذهني الحر، فالقلق والاضطراب النفسي يجعلان الإنسان معتقلاً اجتماعياً وسياسياً من دون سياج القضبان.

فحين يتأرجح عقل الانسان بين المعقول وغير المعقول، وتتولد خيالات كئيبة في مثل هذه الظروف المفتعلة ومعقدة المصادر، لا يمكن أن يشعر الإنسان بحريته ويتمتع بها، بل يجد عقله حبيساً كنتيجة حتمية حين تُغتصب الحريات وتُكمم الأفواه.

لا شك أن حبس العقل وشل الحركة الإنسانية أشد تأثيراً في الفرد والمجتمع ككل، خصوصاً حين تكون أوامر الأَسر صادرة عن جهات تضع جل اهتمامها بحبس العقول وصولاً إلى محاصرة الحركة الذهنية المطلقة وتطويقها بما يشبع أهواء مريضة نهجاً وفكراً.

إنها منحنيات سياسية طامعة في بث سموم قاتلة للحريات والتعددية الفكرية والحركة الإنسانية الحُرة.