لا يكاد يتوقف الحديث المتكرر والمستمر عن أهمية وضرورة تجديد وتطوير الخطاب الديني، وهو الذي عادة ما يثير موجة صاخبة لا تتوقف بسهولة من ردود الفعل إلا ويعود عن المسألة نفسها بشكل متجدد مرة أخرى. ليس بسر ولا هو بالمسألة الخفية السجالُ القديم/ الجديد عن أهمية إعادة فتح باب الاجتهاد الذي تم إغلاقه منذ زمن بعيد جداً والخروج من التقليد الجامد، الذي قد يعطل مفهوم أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان.
اعتمد معظم المدافعين عن الفكرة التقليدية لتفسير النصوص، والاعتماد بشكل رئيسي وشبه حصري على آراء الأولين على الحديث الشريف للرسول الكريم سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي قال فيه: «خير القرون قرني ثم القرن الذي يليه»، متناسين أو بالأدق متجاهلين قوله (صلى الله عليه وسلم) أيضاً: «الخير في أمتي حتى قيام الساعة»، وهي المسألة التي فطن إليها الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان، مؤسس المذهب الأول والأقدم لغالبية المسلمين في العالم، وهو المذهب الحنفي، الذي يعتمد بشكل أساسي على العقل وليس النقل في إصدار الآراء والفتاوى. وكان أبو حنيفة النعمان، قد وُجِه بأصوات أصولية متشددة تدعوه للاعتماد على ما قاله الأوائل من الذين سبقوه من المسلمين، فما كان منه إلا أن قال قولته المشهورة: «هم رجال ونحن رجال».
الجمود وغلق باب الاجتهاد هما اللذان حصرا مسألة الرأي والفتوى في شخصيات محددة رحلت عن دنيانا منذ مئات السنين، وبالتالي ستكون هذه الآراء غير قادرة منطقياً على أن تدلي برأيها في مسائل مستجدة وبالغة التعقيد، وهي المسألة التي تركها لنا مفتوحة سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) بالحديث الشريف الذي قال فيه: «أنتم أعلم بشؤون دنياكم» ليكون مدخلاً مهماً للتدبر والتفكر والاجتهاد والبحث عن المصلحة العامة، التي تعود بالفوائد على المجتمعات بشكل عام.
ليس بخافٍ على الكثيرين من المهتمين والمتابعين للشأن المتعلق بتجديد الخطاب الديني، أن هناك الكثير من آراء علماء ومشايخ كبار تسببت في تفرق المسلمين والاقتتال بينهم، وبقيت هذه الآراء شبه مقدسة لا تحذف أو تراجع أو تهذب، بل بقيت الكتب والأصوات تدافع عنها وتبرر بأن العلة في الفهم الخاطئ لها، وأن النية خلف هذه الأقوال كانت تحمل خيراً عظيماً للإسلام والمسلمين، لتثبت الأيام لاحقاً سذاجة هذه المقولات وعدم دقتها وابتعادها عن احترام عقل المتلقي لها.
ومع الحديث المتجدد هذه الأيام عن عودة احترام العقل وإعماله في الطرح والنقاش وتحفيز جاد لفقه المصالح، وتأسيس نهج محترم تؤسس فيه منظومة إصدار الفتوى التي تراعى فيها كافة هذه الجوانب حتى تلقى حين إصدارها المكانة اللائقة والجديرة بها وفيها، بدلاً من حالات الاستغراب والتندر من بعض ما كان يصدر من آراء فقهية تثير الدهشة والتعجب. في كل هذا المشهد وتبعاته المتوقعة قد يكون العالم الإسلامي على موعد طال انتظاره من الممكن أن يطلق عليه وصف «حقبة الخلف الصالح» التي تحسن الظن تماماً في المفكرين والعلماء والمجتهدين المعاصرين، وتحترم جهد العقل وتقدره كنعمة من نعم الله على الإنسان الذي كرمه الخالق عز وجل، وتعتقد تماماً أن «الخيرية» عنصر مؤكد في الناس حتى نهاية الزمان لا تحصر في فئة من الناس ولا في حقبة من الزمن.
هذه بلا شك مفاهيم جديدة تماماً، وقد تكون صادمة ومحبطة لبعض الناس الذين تم قولبتهم بدقة شديدة وعناية دقيقة عبر فترة طويلة جداً من الزمان باتباع منهجية نمطية تقليدية بحتة.
القرار السياسي، وهو الأهم، تم اتخاذه بتبني هذا النهج المتجدد في الخطاب الديني ليواكب تطلعات الفئة العمرية الأكبر من شعوبها، وهي التي تشكل الغالبية العظمى من حجم السكان، وهي الفئة التي باتت تشعر أن الخطاب الديني النمطي أصابه الجمود والتحجر، وأنه بات خارج متطلبات العصر، وبالتالي يكون من المتوقع أن يتبعها حراك بالديناميكية نفسها في المؤسسات الدينية الرسمية المختلفة.
خطوات صغيرة ولكنها بالغة التأثير والأهمية ولا يمكن الإقلال من قيمتها. إنها حقبة «الخلف الصالح» التي طال انتظارها.