الاعتقاد السائد في الشرق هو أن تل أبيب هي البوابة الرئيسة لأمريكا وليس واشنطن، ولذلك فالكثير ممن يشتري خاطر إسرائيل إنما يخطب ود أمريكا بسلطاتها الثلاث، وهو في واقع الحال يريد أن يبيع سمعته على الكونجرس والإعلام الأمريكي وأن يجمّل صورته أمام البيت الأبيض عن طريق النفوذ الصهيوني وجماعات ضغطه هناك.

تجلّت قوة اللوبي الصهيوني في أمريكا إبان مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران عام 2015م، حيث خاطب بنيامين نتنياهو جلسة مشتركة للكونجرس في مارس من ذلك العام رغما عن باراك أوباما، وقاطع الجلسة حينها جو بايدن بصفته رئيس مجلس الشيوخ بحكم منصبه نائبا للرئيس، كما 3 آخرون من الشيوخ، 26 عضوًا من النواب. بالتأكيد لم ينس الديمقراطيون ذلك الصلف، ولم ينس بايدن تلك الإهانة. ولقطع الطريق على حماقات نتنياهو استدعى البيت الأبيض وزير الدفاع الإسرائيلي بني غانتس لاطلاعه على مسودة الاتفاق النووي مع إيران، وتطمينه على مستقبل أمن إسرائيل، بعد تصريحات عنترية لنتنياهو هدد فيها بتوجيه ضربة عسكرية منفردة إلى إيران، ولو رغما عن أمريكا، مع أنه يعرف جيدا تعذر توجيه ضربة جوية لإيران بدون الموافقة والدعم الأمريكي الاستخباراتي واللوجستي والسياسي.

العلاقات الأمريكية الإسرائيلية لا تزال قوية، والتزام أمريكا بأمن إسرائيل لم يتزحزح، ولكن تواجه الإدارة الأمريكية والكونجرس تغيرا في مزاج الرأي العام الأمريكي. وقد كتبت سابقا عن تململ في الشارع الأمريكي برز عقب أحداث 11 سبتمبر 2001م، ففي الوقت الذي نشطت الوفود الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو ودوري جولد (مؤلف كتاب: مملكة الكراهية) لاستعداء الكونجرس والإعلام الأمريكي على المملكة العربية السعودية تحديدا، فإن هذا التطرف الصهيوني قابله تململ في الشارع الأمريكي سمح بطرح أسئلة عما إذا كان الإرهابيون يهاجمون أمريكا بسبب دعمها لإسرائيل، رافضين أن تكون الأخيرة جزءًا من الأمن القومي الأمريكي. لعب حارس البوابة الإعلامية منذ عهد الرئيس ترومان دورًا حيويًا في حجب أي نقد موجه لإسرائيل، بل إن الكونجرس ينتقد كل شيء في أمريكا ولا يجرؤ على نقد السياسات الإسرائيلية.

يتمتع الأمريكيون اليوم بمنصات يستطيعون من خلالها التعبير عن مشاعرهم ومواقفهم من إسرائيل، وإذا لم يكن ذلك من واقع العداء لسلوك إسرائيل فإنه من أجل القيم التي يؤمنون بها من حريات وعدالة وكرامة، وقد تناثرت هذا المصطلحات على ألسنة العديد من المسؤولين الأمريكيين إبان الأزمة الأخيرة. ومما لفت الانتباه التغيير الذي طرأ على الكونجرس وخروج خطاب لم تعهده إسرائيل يقرّع سياساتها ويطالب بموقف رسمي حازم منها، بل وصل إلى حد طلب إلغاء صفقات السلاح المجانية لإسرائيل وتحويل ملياراتها إلى بعض الولايات الأمريكية المحتاجة.

عندما يتقدم برني ساندرز الصفوف في توجيه النقد لإسرائيل، فإن علينا ألا نضع تصريحاته في سياق النشاز اليساري المتطرف، وإنما نأخذ في الحسبان شعبيته الجارفة بين الشباب الأمريكيين رغم فارق السن.

وتتيح أجواء التحول النوعي في الشارع الأمريكي الفرصة للسؤال عن: مَن يستخدم مّن؟ هل إسرائيل هي التي (كانت) توجه السياسة الأمريكية، أم أن أمريكا تستخدم إسرائيل لتحقيق مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط والقوى المتاخمة له كالصين وروسيا؟ لا شك أن أمريكا دولة تستند إلى عمق في الخطيط، وتدير منذ نهاية الحرب العالمية الثانية استراتيجيتها القائمة على الفوضى وعدم اليقين، وليس أفضل من إسرائيل رأس حربة في هذه اللعبة.

وعوداً على بدء، وما إذا كانت تل أبيب لا تزال بوابة أمريكا؟ وفي عجالة، هناك تغيّر ملحوظ والفضل يعود فيه إلى مرحلة الرئيس ترامب الذي أعلى من شأن اليمين الأمريكي وخصوصاً الإنجلييين الذين يمثلون الدعم العقدي لليمين الإسرائيلي. فقد استيقظ الأمريكيون على خطر حقيقي يتهدد وحدتهم متمثلاً في استعلاء العرق الأبيض، ونشاط المليشيا المتدينة، والتحزب اليميني الأبيض ضد بقية مكونات الشعب الأمريكي. وقد وصفه الرئيس بايدن بأنه خطر حقيقي يفوق أي مخاطر أخرى واجهتها أمريكا. آخذا في الاعتبار هذا التهديد، يمكن القول إن السياسات الأمريكية تجاه اليمين تضع اليمين الإسرائيلي في ذات الكفة، ولذلك يتم التخلص من نتنياهو، ليس على أساس أن البديل أكثر اعتدالاً، ولكن لكسر الصورة النمطية، في خطوة تتبعها خطوات على مستوى أمريكا وإسرائيل. ومما يساعد الإدارة الأمريكية في مسعاها أن شباب الإنجيليين ليس ميالاً بالفطرة لإسرائيل على أساس ديني، لكنه يتشارك مع بقية شباب العالم جملة من القيم تعارض الاستعمار والقهر والإذلال وتنادي بالعدالة.