على قدم وساق تجري الاستعدادات في سويسرا للقاء القمة، الأربعاء المقبل، بين الرئيس الأميركي بايدن ونظيره الروسي بوتين، في محاولة لتضييق هوة الخلافات التي اتسعت، إلى درجة أن البعض يرى أن الخلافات، ومِن ورائها التهديدات، قد تجاوزت ما كان قائماً في زمن الحرب الباردة، في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
هل يمكن لهذا اللقاء أن يضحى معجزياً وينهي دفعة واحدة جميع الملفات العالقة بين الجانبين، ويفتح مسارات جديدة من واشنطن إلى موسكو والعكس؟
يبدو التساؤل طهرانياً أكثر مما تحتمل الأوضاع السياسية المتأزمة بين الجانبين، بدءاً من إشكالية أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، مروراً بالتحركات العسكرية من الجانبين مؤخراً، لا سيما بعد أن حركت روسيا عديد قواتها ومعداتها للغرب والجنوب، بينما قام الناتو بأكبر مناورة عسكرية بالقرب من روسيا منذ ثلاثين عاماً، أما الملف الذي يكاد يلهب جذوة الصراع بين البلدين، فيتمثل في الهجمات السيبرانية، التي تزعم واشنطن أن روسيا تقف وراءها، وهي على أعلى درجة ممكنة من الخطورة، الأمر الذي بات يُوصَف في الداخل الأميركي بأنه حرب بلا دماء. وما بين الصراع الخشن والناعم عشرات الملفات التي تتجاوز ساعات اللقاء القليلة، على أهميتها.
ولعل المثير أن يقبل الروس هذا اللقاء، وبوتين على وجه الدقة، لا سيما بعد أن وصفه بايدن، في منتصف مارس (آذار) الماضي، بـ«القاتل»، وجاء رد الأول يحمل تشكيكاً في قدرات سيد البيت الأبيض الصحية، وإنْ شئنا الدقة قلنا: الذهنية، لكنها السياسة وألاعيبها في كل الأحوال.
تدرك إدارة بايدن أن الروس قد اكتسبوا نفوذاً كبيراً في العقدين الأخيرين من القرن الحادي والعشرين، وأن ترسانتهم التقليدية والنووية قد باتت زاخرة بصنوف من أحدث أنواع الأسلحة التي أقر الأميركيون مؤخراً بأنه لا نظير لها لديهم، ومعنى هذا أن طريق القوة الخشنة لم يعد يجدي، وأن أفضل وسيلة للتعاطي معهم، محاولة تذليل العقبات، وبلورة نقاط اتفاق على خريطة الشطرنج الكونية الإدراكية.
على الجانب الروسي، يتضح لنا، وبنوع خاص، من خلال تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، قبل أيام، أن الروس مهتمون بهذا اللقاء، ذلك أن المزيد من العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية حكماً سيعيق استكمال نهضة روسيا الاقتصادية، وفرص التنمية، وتحسين الأحوال المعيشية لعموم الروس.
الذين تابعوا لقاء مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، مع نظيره الروسي نيكولاي باتروشف، الأسبوع الماضي، يرصدان توجهاً واضحاً للوصول إلى رؤية تقود لمزيد من الاستقرار وتهدئة التوترات بين الجانبين، فالقمة تأتي في ظل سيولة جيواستراتيجية عالمية، وملامح غموض واضطراب كبيرين يخيمان على عالم ما بعد جائحة فيروس «كورونا»، والحاجة إلى تنسيق أممي قادر على استنقاذ البشرية من وهدتها، خصوصاً على المستوى الاقتصادي، لا الانحدار به إلى غياهب جب المواجهات العسكرية أو الاقتصادية.
لا تبدو إدارة الرئيس بايدن على قلب رجل واحد فيما يخص إدارة الملف الروسي، لكن يهمنا أن ندرك رؤية وزارة الدفاع الأميركية لروسيا؛ فهي التي قادت المواجهة طوال عقود، فيما الحال اليوم يختلف طولاً وعرضاً، شكلاً وموضوعاً.
في وقت سابق، أشار جون كيربي المتحدث الرسمي باسم «البنتاغون» إلى أن وزارته لا تستخدم مصطلح «العدو» فيما يتعلق بروسيا. وقد جاء هذا الرد بعد أن طلب أحد الصحافيين التعليق على التدريبات العسكرية الروسية الصربية التي جرت مؤخراً، فيما وصف طارح السؤال روسيا بالعدو.
جواب كيربي يحمل معاني عدة، وفي مقدمها أن شهية جنرالات أميركا غير مفتوحة على الحروب أو المواجهة العسكرية مع الروس، وربما مردّ ذلك الخوف مما تمتلك موسكو من أسلحة رهيبة مستجدة أكثر فتكاً مما كان لديها في العقود السوفياتية الغابرة، وربما يرون أن هناك بُعداً ماورائيّاً آخر يتطلعون لتحقيقه بالتعاون مع الروس... ماذا عن ذلك؟
باختصار غير مخلّ، تبدو دورة الصالح والمصالح ما بين المثلث التقليدي: واشنطن، موسكو، بكين، سائرة اليوم على غير ما مضت به الأحداث التاريخية قبل خمسة عقود.
في أوائل السبعينات سعت واشنطن، في زمن ريتشارد نيكسون، ومن خلال مهارات هنري كيسنجر التقليدية إلى التقرب من بكين، في محاولة لعزل موسكو السوفياتية، وتضييق الخناق عليها، وقد نجحت في ذلك إلى درجة ما.
اليوم يدرك القاصي والداني في الداخل الأميركي أن العدو الحقيقي للولايات المتحدة، والمهدد الأكبر والأخطر لمشروع القرن الأميركي، هو الصين وليس روسيا.
وفي ظل التنامي المتسارع للتعاون الصيني - الروسي، على جميع الأصعدة، العسكرية والاقتصادية، يصبح من الضار جداً لواشنطن نشوء وارتقاء حلف روسي - صيني يمكن أن يأخذ إلى جانبه المزيد من التجمعات السياسية الصاعدة في آسيا، وغيرها حول العالم، وفي المقدمة منها تجمع دول «البريكس».
الراسخون في العلم الاستراتيجي في الداخل الأميركي يدركون أن الروس والصينيين تعاونهم تكتيكي، ولا يمكن أن يكون أبداً عند لحظة زمنية بعينها استراتيجياً، ذلك أن النار تحت الرماد، ولولا مقدرة الروس العسكرية، لربما كان للصين شأن آخر تجاه الجار الأقرب.
الروس بدورهم يرون أن واشنطن وموسكو قوتان عظميان في عالم اليوم، وأنهما ينبغي ألا تكونا عدوين، بشكل مستقر ومستمر؛ فهذا أمر خطير على العالم والحضارة البشرية، وأنه من الأفضل التعايش، حتى وإن وُجد تنافس، على التربص الذي يقود إلى الهاوية.
متنافسان لا عدوّان... ماذا بعد؟ دعونا ننتظر ونر.