هناك كان متكئاً على مقعده بالقرب من منزله، في مسقط رأسه مدينة "كييف"، توقفت عنده، ثم مسحت على حذائه وفركت أنفه كما يفعل زائروه.

قبل يومين اكتمل عِقد رحلتي إلى العاصمة الأوكرانية بزيارة منزل الكاتب الأوكراني/الروسي "ميخائيل بولغاكوف"، المُبدع الذي لم تحظ رواياته ومسرحياته بالتقدير والانتشار إلا بعد وفاته ونشر أعماله!

بعد أن أبدع مجموعته القصصية "مذكرات طبيب شاب"، هجر الطب إلى عوالم المسرح ودهاليز الأدب في موسكو، وعلى الرغم من كل ما اكتنفه من متاعب ومضايقات من الحزب الشيوعي الحاكم، نالت استقراره وأمنه، إلا أنه استمر حتى وفاته يكتب ويراجع مخطوطات أعمال مرة بعد مرة.

في منزله الذي تحوّل إلى متحف يحتوي كتبه وصوره ومقتنياته هو وعائلته، تلحظ مدى تأثير والديه المثقفين، إذ كان والده أستاذاً في أكاديمية العلوم الروحية، عالماً في اللغات ومؤرخاً مقارناً للأديان، أما والدته فذات ثقافة دينية وأدبية واسعة وموسيقية عالمية، وهو ما تلمسه –أيضاً- في قطع الأثاث والبيانو والمقتنيات، غير أنه كابد ضنك العيش بعد وفاة والده وهو لا يزال على مقاعد الدراسة، فاضطرت أمه للعمل حتى استطاعت إرساله لكلية الطب، ويتخرج بامتياز.

غير أن اللافت في منزله ما تستشعره من أجواء روايته "الحرس الأبيض"، التي تصف الحرب الأهلية الأوكرانية عامي 1918 و1919م، الرواية تتخذ من مدينة أوكرانية مجهولة مسرحاً لأحداثها، حينما تحاول أوكرانيا الانفصال عن الإمبراطورية الروسية القيصرية قبل أن تقوم الثورة الاشتراكية في روسيا سنة 1917، لتصبح أوكرانيا نفسها جبهة مشتعلة بين جيوش ألمانية وروسية وأوكرانية تؤيد الثورة الاشتراكية أو تقف ضدها.

تستشعر أطياف عائلتين اثنتين، عائلة "بولغاكوف" الحقيقة، وعائلة "توربين" وجيرانهم وأصدقائهم ضباط الحرس الأبيض أبطال الرواية، التي حينما نشرت أول مرة في مجلة روسية، أغلقت بعد نشرها لأنها اعتبرت معاداة للثورة البلشفية، ليتعرض بعدها للملاحقة والتضييق، ومنع أعماله الروائية والمسرحية من النشر، ولم ينقذ مسيرته الأدبية سوى زيارة الزعيم السوفيتي "ستالين" لمسرحية "أيام عائلة توربين" المستمدة من الرواية الأصلية، وإعجابه بها رغم معارضتها للقيم البلشفية.

تعد "الحرس الأبيض" باكورة أعماله على الرغم من أنه كتبها في سن 23 عامًا، إلا أنها جذبت إليه الأنظار ليصبح أحد أبرز كتاب القرن العشرين الروس إلى جانب العمالقة شولوخوف وبلاتونوف، كما أنها لا تقل أهمية عن روايته الأخرى، وأهمها "المعلم ومرغريتا" التي يزور فيها الشيطان الاتحاد السوفيتي الملحد، ويستعرض بشكل رمزي ما كان يعج به الواقع من متناقضات، استمد بعضها من وحي سيرته الذاتية.

لم يتسن لبولغاكوف أن يدرك المكانة التي يستحقها وهو على قيد الحياة، وعاش حياة شاقة وحذرة، لكنه اليوم أضحى أحد أساطين الأدب الإنساني، ممن تشد لمنزله الرحال وتتداول قصص كفاحه وصبره الأدبي.