القمة التي لم تدم أكثر من أربع ساعات والتي جمعت الرئيسين الأمريكي جو بايدن ونظيره الروسي فلاديمير بوتين يوم 16 يونيو/ حزيران الجاري في أحد القصور التاريخية المطلة على بحيرة جنيف، هي من أكثر القمم التي شهدت انقساماً حاداً في التقييم بالنسبة لقمم أخرى سابقة جمعت رؤساء أمريكيين بنظرائهم الروس. ربما يكون الإعلام الروسي، بحكم خصوصيته، أكثر انسجاماً مع تقييمات الموقف الروسي السلمي لهذه القمة وبالتحديد تعقيبات الرئيس بوتين على نتائجها، لكن موقف الإعلام الأمريكي جاء منقسماً حول هذه القمة ومخرجاتها لأسباب كثيرة، أولها: أن تحليلات وتقييمات الإعلام الأمريكي لمخرجات القمة تعكس بقدر كبير الانقسام الأمريكي الداخلي الحاد في أوساط النخبة الأمريكية الحاكمة من ديمقراطيين وجمهوريين، حيث إن هذه النخبة لم تفرغ بعد من تصفية حساباتها مع بعضها حول معركة الرئاسة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
وثانيها: أن بايدن عاد من قمته مع بوتين بنتائج تختلف كثيراً مع الأجندة التي ذهب محملاً بها والتي يمكن أن توصف بأنها كانت أجندة عدائية سواء بخصوص العلاقات الثنائية، أو بخصوص العلاقة الشخصية. فالأجندة التي طرحت على تلك القمة وصفت بأنها «حقل ألغام» عبرت عنها الملفات الحساسة التي حملها بايدن معه إلى القمة ابتداء من اتهامات أمريكية باعتداءات روسية سيبرانية على منشآت استراتيجية أمريكية، والتدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، واستخدام روسيا القوة لبسط نفوذها في كثير من أقاليم العالم، فضلاً عن الإدراك الاستراتيجي الأمريكي لخطورة ما تعتبره واشنطن تهديداً خطيراً للأمن والمصالح العليا الأمريكية جراء تحالف العلاقات الروسية – الصينية.
مخرجات القمة، وعلى لسان الرئيس بايدن جاءت مخالفة إلى حد بعيد، على الرغم من التزام بايدن بقرار الفريق الرئاسي المرافق برفض المشاركة في مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الروسي وقيامه بعقد مؤتمر صحفي منفصل، وهو الأمر الذي قام به أيضاً الرئيس بوتين. وعلى الرغم من أن بايدن كان متماسكاً ويقظاً في مؤتمره الصحفي إلا أنه طرح مواقف بدت تصالحية مع الرئيس بوتين، وتطلع نحو التعاون وليس المواجهة، وإعلانه أن «هناك إمكانية لتحسين العلاقات بين البلدين دون التخلي عن القيم الأمريكية»، ثم تأكيده أن «آخر شئ يريده (بوتين) الآن هو حرب باردة».
أما السبب الثالث لتباين التقييمات الأمريكية لقمة جنيف بين بايدن وبوتين والانقسام حولها؛ فيرجع إلى غياب الحسم بين ما هو تعبير عن مواقف ومصالح أمريكية تجادل بايدن بخصوصها مع الرئيس الروسي وأثّرت بالتالي في نتائج القمة وبين ما هو انعكاس لتأثير القمتين السابقتين اللتين شارك فيهما جو بايدن مع الحلفاء الأطلسيين والشركاء العالميين.
فالأيام الأربعة التي سبقت القمة الأمريكية - الروسية شهدت مشاركة بايدن في قمة الدول الصناعية السبع الكبرى في لندن وقمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسل، وهما القمتان اللتان أعطيتا الأولوية لقضايا بعينها تتركز حول ترميم العلاقات بين ضفتي الأطلسي، أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بعدما أصابها من انتكاسات تسببت فيها سياسات الرئيس السابق دونالد ترامب، بما يدعم من قوة حلف الناتو ويحصن الموقف والمصالح الأمريكية والأوروبية تجاه الخطر الروسي- الصيني.
كيف أثرت القمتان في تهدئة الرئيس الأمريكي في حواره مع الرئيس الروسي؟ وما هي المصالح الأمريكية البحتة التي تحققت في تلك القمة وما هي النتائج التي تخص الحلفاء الأوروبيين؟
الانقسامات والتساؤلات الأمريكية الكثيرة حول أجواء قمة جنيف ونتائجها جعلت المقربين من الرئيس بايدن، سواء على مستوى الأشخاص أو المراكز البحثية أو الإعلامية تقول إن «مجرد لقاء القمة يعد إنجازاً كبيراً لرؤية الرئيس بايدن الذي أعطى الأولوية للمسار الدبلوماسي في الانفتاح وتقديم الحلول للتحديات الكبرى التي تواجه الولايات المتحدة، مستندة إلى أن التوافق على عودة سفيري البلدين واعتماد إعلان مشترك بخصوص الاستقرار النووي الاستراتيجي بهدف منع نشوب حرب نووية مؤشرات نجاح مهمة تقول، من وجهة نظرهم، أن«أمريكا عادت وعادت معها الدبلوماسية» لرسم معالم المرحلة المقبلة، في حين أن المناوئين يتحدثون عن ثلاثة أهداف عجز بايدن عن إحداث اختراقات بخصوصها مع بوتين؛ أولها، إقناع الحلفاء الأوروبيين بأن أمريكا عائدة لممارسة دورها الريادي، وثانياً حشدهم خلف توجهات واشنطن لاحتواء الصعود الصيني، وثالثاً إرساء خطوط حمراء أمام الرئيس الروسي الذي أضحى خصماً معتبراً. وأنه وإن كان قد أعطى مؤشراً لقدر من النجاح في الهدف الأول إلا أنه لم يحقق نجاحاً ملموساً في الهدفين الآخرين. انقسام يقول إن السياسة الأمريكية الخارجية ما زالت ملتبسة وأن مسارات العلاقة مع موسكو ستبقى غامضة.