أكبر تقريع يوجه للمثقفين هو أن ما يقولونه مجرد «كلام كتب»، وقد ينظر إلى خطاباتهم، سواء كانت مكتوبة أو محكيّة، على أنها مجرد «رطانة» منبتّة الصلة عن الواقع، الذي تلزمه معالجات عمليّة وليس مجرد نظريات لا تسمن ولا تغني من جوع، كأن من يقولون هذا يغمزون من قناة المثقفين، لا بل ويجاهرون بالسخرية منهم، ولسان حالهم يقول: «ما أبعد الشقة بينكم وبين الواقع. أنتم في وادٍ والناس في وادٍ آخر».
هناك مقاربات قد تكون أقلّ وطئاً، قد لا تصل حدّ «تسفيه» أصحاب «كلام الكتب»، أو ازدراء ما يقولون ويكتبون أو السخرية منه، وإنما تكتفي بمطالبتهم بالنزول من «برجهم العاجي» الذي فيه يتحصنون، عازلين أنفسهم عن صخب الحياة وتعقيداتها ومشاكلها.
ويقال إن مصطلح، أو بالأحرى وصف «البرج العاجي» جاء بالأصل في سفر «نشيد الأنشاد»، وبمعنى تقديسي، لا بالمعنى الهجائي الذي انتهى إليه بدءاً من القرن التاسع عشر وما تلاه في وصف السعي الفكري المنفصل عن مساعي الحياة اليومية الواقعية، حتى أن المعاجم العربية اكتفت بالقول إنه «مصطلح حديث يدلُّ على عُزلة الأديب أو الفنان أو غيرهما عن المشكلات الاجتماعيَّة، يُستعمل للمدح أو الذّمّ».
لكننا لم نعثر على ما يشير إلى استخدام هذا التعبير للمدح، فهو في السائد تعبير للهجاء أو الذّم، إلا إذا كان المقصود ما تشي به مفردة «العاج» من وصف للثراء والغنى، فالعاج، كما نعلم جميعاً، مادة ثمينة تصنع منها مفاتيح آلة البيانو، وكرات البلياردو، وأدوات الزينة، ويؤخذ من أسنان الفيل في غابات إفريقيا والهند وشرق آسيا، وتشير مصادر أخرى إلى أن هناك عاجاً نباتياً أيضاً يستخدم في صناعة الأشياء الصغيرة مثل الأزرار.
في كل الأحوال حتى لو كان البرج عاجياً، فإنه في النهاية برج، منفصل، أعلى مما دونه، متعالٍ عليه، فكأن الهاجي لمن يراهم قابعين في هذه الأبراج من المثقفين يقول: انزلوا من أبراجكم ومن نعيم عاجها وتعالوا للحياة.
تنطوي الفكرة على «غواية» تستدرجنا إليها، وتصرف أنظارنا عن جوانب أخرى مهمّة في المسألة، بينها أنه ليس كل «كلام الكتب» آتياً من أبراج عاجيّة، ففي شرايين هذا الكلام تتدفق مسارات الحياة بكل ما فيها من صخب وصراعات وتناقضات بين القيم والأفكار المتضاربة، هذا أولاً؛ وثانياً: قد يفاجئنا أجداد أو جدات، لم يمروا في حياتهم بمدرسة، ولا يفكّون الحرف كي يقرأوا كتاباً، بمقادير الحكمة والخبرة والمعرفة التي علمتهم إياها الحياة التي عاشوها وخبروا منعطفاتها، مما نعجز نحن، أهل الكتب، عن بلوغها.