نظرة سريعة على المشهد الفكري والفلسفي العربي الراهن، تقودنا إلى أسماء مهمة قدمها المغرب، واصلت إثراء هذا المشهد بالدراسات والأبحاث والترجمات، ونزعم أن في تكوين هذه الأسماء، فكرياً وفلسفياً، تضافرت مجموعة من الروافد خلقت ما يمكن أن يعد خصوصية مغربية، وقد تشمل هذه الخصوصية الحيز المغاربي كاملاً، أو على الأقل بعض بلدانه، التي شاركت المغرب في هذه الخصوصية.
فبالإضافة إلى ما خرج به مفكرو المغرب المعاصرين من حصيلة ثرية من قراءاتهم المعمقة في التراث العربي الإسلامي، كما نجد ذلك في كتابات محمد عابد الجابري، مثلاً، فإن المثاقفة العميقة مع الفكر والفلسفة الفرنسيين لعبت، هي الأخرى، دوراً مهماً في هذا التكوين؛ حيث نشأ تلاقح خلاق ومنتج بين ثقافتين، يذكرنا بحالات مشابهة عرفها تاريخنا العربي وتاريخ العالم، والمؤكد أن القرابة الجغرافية والتاريخية مع التراث الأندلسي، أدباً وفكراُ وفلسفة، أسهمت بدورها أيضاً في بلوغ هذا الثراء المعرفي.
مؤخراً غادرنا أحد رموز الفكر في المغرب الفيلسوف محمد سبيلا، المولود في عام 1942، والذي درس في المغرب وفي «السوربون» بفرنسا، وعمل أستاذاً بكلية الآداب بالرباط، وشغل منصب رئيس شعبة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس فيها، كما ترأس الجمعية الفلسفية المغربية لسنوات عدة.
وأذكر أن سبيلا حل، مع زميله عبد السلام بنعبد العالي، ضيفين على إحدى دورات معرض الشارقة الدولي للكتاب في أواخر التسعينات الماضية؛ حيث شاركا في أحد أنشطته الفكرية، وكان لي، يومها، حظ التعرف عليهما عن قرب والاستزادة من معارفهما.
نتاج سبيلا الموزع بين البحث الفكري والفلسفي والترجمة يتضمن عدداً كبيراً من المؤلفات، ليس بوسع أي باحث أو مهتم بالفلسفة والفكر إلا أن يطلع عليها، وكلها موجهة نحو الانتصار للعقل والعقلانية والحداثة، والتصدي للأوهام التي استحوذت على أذهان بعض المأخوذين ب «الموضات» الفكرية والفلسفية الآتية من سياقات أخرى، ومحاولة إقحامها قسراً على واقعنا المختلف كلية.
على سبيل المثال سخر محمد سبيلا في كتابه «الحداثة وما بعد الحداثة» من بعض المثقفين العرب الذين ما أن سمعوا بمصطلح «ما بعد الحداثة» حتى انهالوا على مشروع الحداثة العربية بالهجاء والتهكم، ناظرين إليه كما لو بات ماضياً، ولسان حالهم يقول ساخراً: «نحن الآن في «ما بعد الحداثة»، وأنتم ما زلتم قابعين في حداثتكم المهترئة».
في كتابه هذا وصف سبيلا «ما بعد الحداثة» بأنه «مصطلح مطلي بالصابون، منزلق الدلالة ويشي بالخداع»، كأنه يحث دعاته من العرب إلى أن يفيقوا إلى أنفسهم، فكيف لمجتمعات ما زالت مترددة في ولوج الحداثة أن تتحدث عن ما بعدها؟